غزة تكتب بمقاومتها ودماء أطفالها الإعلان العالمي الجديد لحقوق الإنسان

تزامنت نكبة الشعب الفلسطيني وتشريده مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وما زال هذا الإعلان قائماً لكن وفق مقتضيات مصالح الامبريالية الاسترتيجية وخطة نظام عالمها الجديد . ما يعني أن تطبيق الإعلان العالمي يخدم خطة الرأسمالية وسيطرتها على مقدرات الشعوب وليس الحق في المقاومة وتقرير مصيرها كما ينص الإعلان المذكور.

من هنا، فإن منطق الامبريالية الاميركية يعمل بعكس الاتجاه فمن جهة يدين المقاومة الشعبية ويضعها على رأس لائحة الإرهاب، ومن جهة ثانية يرعى الارهاب ويدعم حروبه ومجازره ولا سيما الإرهاب الصهيوني ويضعه خارج المساءلة والمحاسبة والمحاكمة والعقوبات لإنه من صنيعته وعدة شغله للقضاء على حركة التحرر الوطنية ، وحق الشعوب، ولا سيما حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وتقرير المصير. وبالتالي، يصبح القانون الدولي الإنساني وإتفاقيات جنيف وإضافاتها وملحقاتها من خارج المهمة .

من المعلوم، أنه بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وإنتصار الشيوعية والحلفاء على النازية، تم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على وقع ملايين ضحايا النازية والفاشية، وذلك من أجل توفير الحقوق الفردية الإنسانية (الحياة والسلامة والقضاء والتنقل وحرية الفكر والمعتقد والرأي..)، لكن الإعلان العالمي وقتها لم يتطرق الى حقوق الشعوب في تقرير مصيرها أو إلى حقوقها السياسية والاقتصادية. لكن هذا الإعلان شكل المحطة الاولى لقاعدة المفاهيم الحقوقية الجديدة من خارج أطر (العرق والجنس واللون والدين والاقليم)، وأساسها مبدأ "الحرية".

ولأن الإعلان العالمي لم يشمل مبدأ "المساواة"، فقد تم وضع العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق السياسية والمدنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1969، وشكلا القاعدة الثانية من حقوق الانسان. لكن بعد اختلال موازين القوى الدولية وانهيار المعسكر الاشتراكي، جاءت القاعدة الثالثة لتكرس "مبدأ مفهوم التضامن" كنقطة أساسية قوامها الحق في التنمية وعلاقتها بالديمقراطية وربط ذلك بمفهوم حقوق الإنسان في مؤتمر فيينا 1993.

حرية، مساواة، تضامن وتنمية وتضامن قواعد اساسية تكرست بدم ومقاومة ونضال شعوب الأمم، في سيرورة صراعها من أجل التحرر من كل أشكال الاستعمار والاحتلال والاضطهاد والاستغلال الطبقي قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبعده.

فمقاومة الشعوب وثوراتها لم تتوقف عبر التاريخ من أجل تحررها الوطني وإنتزاع حقوقها السياسية والاجتماعية الإنسانية وتكريسها حتى اللحظة. وما يجري الآن في فلسطين المحتلة وقطاع غزة من صمود ومقاومة في مواجهة المحتل الصهيوني وحروبة المستمرة منذ 75 عاماً لإبادة الشعب الفلسطيني وتشريده وتصفيه قضيته. هو دليل على إرادة الشعوب في المقاومة للتحرر ولو باللحم الحي. وهذا ما نصت عليه الشرعية الدولية لحقوق الإنسان ، وما كفله القانون الدولي الإنساني.

اما تصنيف الإمبريالية الاميركية والاطلسية للمقاومة الفلسطينية في غزة بالإرهاب، فلا تعني سوى فعل الشراكة التامة للامبريالية العالمية مع الكيان الصهيوني العنصري في مفاعيل حربه الاخيرة التي تستهدف إبادة شعب بكامله وتهجيره. وكل المواقف المعلنة والداعمة دون حدود للحرب الصهيونية الفاشية على غزة، هي فعل شراكة كاملة وتغطية مطلقة من الامبريالية العالمية للإبادة الجماعية الجارية في غزة. اما حصار غزة وحرمان شعبها من الماء والغذاء والدواء والكهرباء والحياة وربط ايصال المساعدات من معبر رفح إلى غزة بمشروع " الترانسفير" الجديد لإكثر من مليوني فلسطيني فهذه جريمة موصوفة بحق الإنسانية ترتكب عن سابق اصرار وتعمد لتصفية القضية الفلسطينية وشطب حق الشعب الفلسطيني من الوجود. وهذا ما شجع ويشجع الكيان الصهيوني المحتل أن يرتكب المجزرة تلو المجزرة منذ 75 عاماً داخل فلسطين المحتلة وخارجها، وآخرها المجزرة الوحشية المروعة التي استهدفت مستشفى المعمداني كبنك أهداف لقتل الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء. وهذا لا علاقة له بالحرب وقواعدها وكل الاتفاقات الدولية الإنسانية.

الحديث عن القانون الدولي الإنساني"ضحك على الذقون" في ظل النظام العالمي الإمبريالي الجديد، وفي حقيقة اعتبار هذا النظام العالمي المتوحش ان قيام الكيان الصهيوني المصطنع غرضه أن يشكل قاعدة عسكرية متقدمة تخدم مصالحه الحيوية الاستراتيجية في المنطقةـ والتي تتجسد في هذه المرحلة في تنفيذ المشروع الاستعماري الجديد تحت مسمى "الشرق الاوسط الجديد"، والذي يحمل وفق منطقه الاستعماري على توفير قيم حقوق الإنسان وإحلال الديمقراطية(مثل ديمقراطية احتلال العراق) ويخفي في جوهره وخلفيته الاستعمارية فرض هيمنتة وسيطرته ونهبه لثروات المنطقة النفطية والغازية والسيطرة على الممرات البحرية، ويترك العنان للإرهاب الصهيوني، والمجموعات الإرهابية المتطرفة المبتكرة والمسماة"اسلامية" من ممارسة كل أشكال القتل والتدمير وارتكاب المجازر لإرهاب المنطقة كلها وتفتيتها وتطويعها وجرها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني تحقيقا لمقتضيات المشروع الاستعماري الجديد ونظامه العالمي الجديد.

نحن الآن في صلب مرحلة من مراحل تنفيذ المشروع الاستعماري، عبر العدوان الصهيوني الجديد على قطاع غزة لتمرير مشروع "الترانسفير الفلسطيني الجديد" الى سيناء، وهذا استكمال لمشروع "صفقة القرن- تهويد فلسطين كلها" حصار، تدمير، سحق البشر وحرق الحجر، ترحيل، توطين جديد.. ومعادلة جديدة في لعبة القضية الفلسطينية والصراع بعد تعميم نظرية "إرهاب المقاومة والقضاء عليه. كون "المقاومة" تعيق عملية السلام والاستقرار والامن والديمقراطية في المنطقة. ويا لها من عملية سلام وديمقراطية اميركية التي انتجتها ديمقراطية معتقل غوانتانامو وسجن أبو غريب وإرهاب مرتزقة القاعدة وداعش والتنظيم في العراق وسوريا ولبنان وكل ما يمت لهذا الفكر الإرهابي المتطرف بصلة. ثم ديمقراطية احتلال العراق ومحاولة تقسيمه، وديمقراطية اشعال الحرب في سوريا ومحاولة تقسيمها وسرقة نفطها وغازها وقمحها وحصارها المستمر عبر قانون القيصر الامبريالي عليها، والاعتداءات الصهيونية على لبنان وتهديد مقاومته وتعزيز انقساماته الطائفية، وتقسيم السودان ثم انهاكه باشعال حروب الجنزالات فيها بعد اشعال حرب اليمن، والاعتداءات الصهيونية المتكررة والمجازر الوحشية المرتكبة بحق الشعب الفلسطين في الضفة والقطاع وفي مناطق 48، وديمقراطية "سلام" الاستسلام والخضوع والتخويف والتطبيع مع الكيان الصهيوني...الخ. اما ديمقراطية الدول الاطلسية فليست أفضل حالاً في الممارسات تجاه حقوق الإنسان، خصوصاً ما يتعلق منها بمسألة التمييز العنصري والمهاجرين واللاجئين ، وتجاهل هذه الدول للبند الخاص المتعلق بحقوق الانسان في اتفاقات الشراكة الأورو- متوسطية(برشلونة).

أما البحث عن ملف حقوق الإنسان في المنطقة العربية كمن يبحث عن"إبرة في كومة قش" بفعل أنظمة لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان، ولا تمت بصلة لمبادئ الحرية والمساواة والتنمية. رغم أن معظم هذه الانظمة تتتباهى بأنها ساهمت في تأسيس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي ترتجل في الخطابات والمناسبات التزامها بالاتفاقات والمعاهدات والموائيق الدولية التي تكفل الحقوق الإنسانية. في وقت تسعى بكل الوسائل المتاحة لمنع قيام اصلاحات وطنية ضرورية وإحداث تغيير ديمقراطي لتأبيد حكمها وسيطرتها وتأمين مصالحها الطبقية.

إن مجريات العملية النوعية للمقاومة الفلسطينية في غلاف غزة، ومن صمود وإرادة لشعب يكتب بمقاومته ودماء أطفاله الاعلان العالمي الجديد لحقوق الإنسان، تتطلب أن تكون القوى السياسية والشعوب المحبة للسلام والديمقراطية الحقيقية ولحقوق الإنسان وللعدالة والمساواة والحرية والتضامن والتحرر الوطني على قدر مسؤولياتها الوطنية والاممية التاريخية من دعم وتضامن لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاومته لدحر الاحتلال الصهيوني وإفشال مخططات المشروع الامبريالي الاستعماري في المنطقة. فالحرب الدائرة في غزة مفصلية في الصراع. فإما ان تتقدم القضية الفلسطينة بما تخدم مسار المشروع الوطني الفلسطيني ومقاومته واهدافه التحررية. وإما أن يحاول اعداء القضية العمل بكل قواهم واذرعتهم وأذنابهم على تطويق انتصارات المقاومة الباسلة والتضحيات الجليلة وتقويضها، وإنقاذ الكيان الصهيوني المرتعب من القدرات المثبتة بالمقاومة والصمود الفلسطينية ومن التضامن الشعبي العربي ومقاومته، تمهيدا لتصفية القضية وشطب حقوق الشعب الفلسطيني.

لذلك، فإن الوقوف إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته ومشروعه التحرري الوطني، يعني، أن تكون القضية الفلسطينية على رأس الجدول والمهام الثورية التحررية، وأن تكون الحقوق الوطنية والإنسانية المشروعة للشعب الفلسطيني هي الموقف السياسي الرافض للعدوان الصهيوني على غزة والذي يدين مجازره الوحشيه والابادة الجماعية التي ترتكب، كما يدين شركاء العدو الصهيوني من امبرياليين اميركيين واوروبيين ومطبعين رجعيين، وهي في آن مواقف اجتماعية إنسانية تتعلق بتوفير مستلزمات الصمود الشعبي الفلسطيني لمنع التهجير " الترانسفير" والتوطين الفلسطيني في سيناء او غيرها للثبات في أرضه ورزقه وتاريخه.. وإنهاء مفاعيل مهزلة معاهدات السلام ( كامب ديفيد واوسلو ووادي عربة.. وغيرها من اتفاقات التطبيع الخيانية المذلة..) وكل مبادرة تصب في اتجاه التضامن واشكال الدعم العربي والاممي من شأنها أن تعزز مسيرة التحرر الوطني وتفتح الطريق نحو تحرير فلسطين وحق العودة وتقرير المصير واقامة الدولة الوطنية الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

ان معركة "حقوق الإنسان" كانت عبر التاريخ وستبقى من فعل نضال الشعوب، تصنعها بالمقاومة الوطنية والصمود والثبات والتضحيات. ولم تقتصر يوماً على مناشدة الامم المتحدة ومؤسساتها للقيام بتحقيقها، لكن لا بد من استخدام كافة الوسائل والوسائط القانونية الدولية للتأثير والضغط على الامبريالية الاميركية الممسكة بقرار المؤسسات الإنسانية الدولية ولتعزيز التضامن الأممي ومساهمة القوى الدولية والاقليمية المؤثرة في صنع القرار والداعمة للقضية الفلسطينية ولحقوق شعبها من أن تلعب الدور المطلوب من موقعها في التصدي للمشروع الامبريالي – الصهيوني وأن تترجم مواقفها بالدعم السياسي والمادي والمعنوي واللوجستي والإنساني لقوى التحرر الوطنية ولحق الشعب الفلسطيني في معركته التاريخية الجارية اليوم في غزة لإنتزاع حقوقه المشروعة كاملة. كما في متابعة ملف حرب "الابادة الجماعية" في مركز القرار الدولي لمحاسبة الكيان الصهيوني ومحاكمته على جرائم الحرب الوحشية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، وآخرها ما يجري في غزة منذ 7 تشرين الاول / اكتوبر الحالي .

*المنسق العام للقاء اليساري العربي

  • العدد رقم: 418
`


سمير دياب