القلم... هذا "السيف" الذي يقطع، ويجمع! *

مَن قال إنّ القلمَ يحتاجُ إلى سيف ، حين تحتاج الكلمة أن تتسلّحَ بالقوة؟
أيُّ سيفٍ أمضى منَ القلم ، وأيةُ قوةٍ أنفذُ من قوةِ الكلمة؟
ولكنّ القضيةَ ليستْ هنا... ليس في الناس مَن يجادلُ بمضاءِ هذا "السيف" الذي اسمه القلم، ولا بنَفاذِ هذه القوة التي اسمها الكلمة...
وإنما القضيةُ أنّ القلمَ "سيفٌ" ذو حدّيْن: حدٍّ يقطعُ ويفرِّق، وحدٍّ يجمع ويوحِّد...
وإنّ الكلمةَ "قوةٌ " ذات ذراعيْن: ذراعٍ تحملُ مِعْولَ الهدم ِ والتخريب، وذراعٍ تزرعُ بذورَ النورِ والحُبِّ والعافية...

غيرأنّ معجزةَ القلم، معجزةَ الكلمة، قادرةٌ دائماً، في كلِّ حين وفي كلِّ معترَك، أن تجمعَ الحدّيْن على هدفٍ واحد، وأن تجمعَ الذراعيْن على قضيةٍ واحدة... فإذا "السيفُ" يقطعُ رأسَ الأفعى السامة ليجمعَ الأمنَ والسلامَ والخير إلى رؤوسَ عديدة... وإذا "القوةُ " تهدم بناءَ الشرّ لتمهّدَ التربةَ تنمو فيها بذورُ النورِ والحب والعافية...
******
نحتاج اليوم، في لبنان، إلى هذه المعجزة...
"سيف" القلم في بلادنا مرهَفُ الحدّيْن معاً:
فهنا أقلامٌ تهوي على شجرةِ الوحدةِ الوطنية تريدُ أن تقلعَ جذعَها العريقَ من الجذور، تريدُ أن تُهرِقَ وتبدّدَ نسَغَ الحياةِ التي يمنحُها الخضرةَ والبهاءَ والقوةَ والشموخ...
وهنا أقلامٌ طيبةٌ تهدهدُ ، على الدوام ، مواهبَ التربةِ الخيّرة حول جذعِ "الشجرة " العاتية الراسخة، لتزيدَ التربةَ خصباً، وتزيدَ الجذورَ قوةَ ونَماءً وعطاءً، وتزيد "الشجرةَ" نفسَها اخضراراً وبهاءً وقوةً وشموخاً...
فكيف تحدث المعجزةُ المنشودةُ الآن ؟
كيف يصبح القلمُ في بلادنا، اليوم - نعم اليوم بخاصة - "سيفاً" على الأعشاب السامة والأفاعي الخبيثة كَيْلا تقذفَ سُمَّ اليَبَسِ والموتِ في شجرةِ الوحدةِ الوطنيةِ العريقة، و"سيفاً " ينكتُ التربةَ الطيبةَ حول الشجرة، لينبِّه فيها كوامنَ الحياةِ من جديد، ويستنبطَ فيها ينابيعَ الخَصبِ من جديد ؟
المسألةُ هنا أكبر من أن تبعثَ فينا الحيرةَ أو اليأس، أو ما يشبه الحيرة واليأس...
المسألةُ هنا هي أنّ "الشحرةَ " ذاتَها كانت أقوى من الأعاصير في كلِّ الأزمنةِ والأدهار، وما تزال، فكيف تحفل، إذن، بالأعشاب الضعيفة الخاوية وبالأفاعي الرخوة يطاردها صقيعُ العزلة من جانب، وتشكّلها مياسمُ الوهج الساطع من جانب، هذا أولاً.
وثانيأ أنّ الأقلامَ الطيبةَ الحادِبةَ على شجرةِ الوحدةِ الوطنية، أرهفُ حدّاً وأنفذُ قوة، وأمْلاُ حياةً، وأسطعُ فكراً... وبذور النور والحُبِّ والعافية في راحتيْها ريّانةٌ بزخَم ِ النَّماءِ وفيْض ِالعطاء...
هذه الأقلامُ هي التي تُحْدِثُ المعجزة... هي "السيفُ" الذي يقطعُ ليجمع... هي "القوةُ " التي تهدمُ لتبني، وتقلعُ لتزرع...
هذه الأقلامُ هي حاملةُ الكلمةِ الطيبة، من ها هنا وها هنا، من هذا الجانِبِ وذاك في شعبنا، لتجعلَ من الكلمةِ قدرةً خارقةً تمدّ أغصانَ الشجرةِ في الفضاء أعلى فأعلى، وتُرسي جذعَها في التربةِ أعمقَ فأعمق...
أيتها الأقلامَ الطيّبةَ في لبنان!
عندكِ سرُّ المعجزة... فما هي بالمعجزة حين تكون الكلمةُ عندئذٍ رسالة، ويكون صاحبُ الكلمةِ عندكِ رسالة...

* مقالة للشهيد حسين مروة نُشِرت في جريدة "الأخبار" بتاريخ 19 آذار 1961