قمرُ من بلادي...

الحيُّ، هذا المكانُ الحيُّ المكتظُّ، المتكاثف كالظُّلمةِ، تتسابُلهُ بطونٌ وأفواه، فروعٌ طويلة الجوع الوطني، الجوع للدفء، لبلادٍ ثريّةٍ.. مديدةِ الفقر والبؤس، لكلِّ ذرة ترابٍ وبسمة هواء، وحين تنكسر الشمس عن الزواريب المتداخلةِ، العشوائيةِ القامات، الدالفةِ مخادعها، وليس غير لُحيظاتٍ، تتسادل خلالها الستائر، ليست غير وجوه القاطنين، يتبادلون بعض الأخبار والنميمة والحكايات.


   نهاراتٌ وليالٍ تتحوّل لتنادمٍ وتسامرٍ متواصلة، كأنّما لا فواصلَ تمنع، لا حواجز، فكلّ ما يصدرُ من أصواتٍ وأنفاسٍ، قهقهاتٍ.. وكلماتٍ مهما كانت، كلّها يتلقّاها ضجيجُ الأسرّة؛ فلا أسرار، لا وقتَ طوال الوقت.
   هنا، الأصباحُ والأماسي، أمنياتٌ كأوراقِ الشجر، لا تكاد اخضراراً، حتى تتساقطَ في سراب الأحلام، وإذا ما تلافحتِ بعضَ الوجوهِ أبخرةُ الطعام وروائحها، انتشت، كأنّ أصحابَها في كلِّ منتجعٍ، على شاطئٍ لازوردي.


   أذكرُ قصةً لطيفةً ومؤلمةً في آن، كيف كان البعض من القاصدين مدينة حيفا للعمل، كيف كانوا يرفعون أرغفة الخبز بوجه الدّخان المتصاعد من مواقد شواء اللحم، كأنّي بهاتي الأرغفة تستحمُّ بإكسير البطون الغرثى، وفي مناسباتٍ أخرى، الحلاوة الطحينية سيّدة الحضور، وأميرة الفرسان، ولفلافل عكا النصيب الأوفر، لبرتقال يافا مذاق الحنين والذكريات، لمفاتيح العودة، ما لا يتآكله الصدأ والنسيان، ذاك زمانٌ وهذا زمان، والأجيال المتعاقبة تنشد العودة.


   ولقمر حيفا، حكايا السهر والعشّاق، أقمار الأحواض ومساكب النعناع، تلك البيارات والقناديل، أغاني الصيادين.. إخوان البحر والمراكب، المآذن والأجراس، دموع الفرح والورد... أعراسٌ مبلّلة الشغف، ومن وراء الزجاجِ أنفاسٌ تتسارع، لا تستريح، ترسم حنيناً، قلباً وقد جنَّ بسهم كيوبيد.
   تُشاغلُنا الخواطر، وهي كالنذور في محراب العمر، في هذا المزود صباباتٌ خمريةُ الصِبا، والجنون يشابهُ الحنين والأنين، وقد يتركنا أشلاءً، ننام بصورها، لكنها مَطِرَةُ القُبل، لا تكاد نخبو حتى ترفعنا عن وسائد الأحلام، تضعنا في دفاتر العشق، في تلك الُّلحيظات الآسرة، اعترافاتٌ مثالية لملوك الجِنّ والأنس، وكيف يتلعثمون كالأطفال أمام جنون الحبّ والإشتياق.


   بعض الوجوهِ، بعض الأيام، بعض النجاحات، وبعض الخيبات الراكدةِ في الذاكرة البعيدة، الراكضة بلا شوارع، بلا خيوطٍ تتراقص الدُّمى، وأحتاجُ لاجتياحٍ غامض، لعتباتٍ مراهِقة، لمكانٍ أخيرٍ آمن...
   أحتاجُ جنّاتِ أمي، لأمان أبي، لأصواتٍ تحبو في مخيلةِ الفراشة، لبائع الكعك عند بوابة المدرسة، لضحكة المُدرِّسة، لحصة الفراغ، لمشاحنات الأولاد، لرسوماتنا الطفولية، لتلك القُبلة والقِبلة، لشفق العشق، لغسق الرؤى، لتنويمٍ مغناطيسي، لحصى المطر، لمسافرٍ  لا يعرفُ غير السفر... إلى الحضن الأوّل، وفي صرّةِ الترحال كلُّ هذا التوجّدِ لسٌرَّةِ، لمسرى والنّور.


***
   في المجيء إليها، في هذي الحياةِ، لا أحدَ يختار الألمَ ليل نهار، وفي غمارها وجوهٌ مستبشرةٌ تهَبُ البسمات، وهي صلاةٌ من نسغ صِلاتٍ إنسانية.
  عند مآوي الأجساد، ثمة امتلاءٌ لأعمارٍ بأكملها، كما لو عمليةٌ سيكولوجية فيزيولوجية تجري، هنا في طاحونة النفس والبدن، تُصهَرُ فيها السلبيات، تُطرحُ خارج الجدران؛ وكما يُقال للحيطان آذان، وصورٌ في كلِّ المناسبات، تبدأ من أوّل قطرة دم، حيث الدّموع مكشوفة، والعبارات مرفوعة، وبيانات الإستسلام مرفوضة.
   هنا، المشاهدُ لامتناهية، وهي لمّةُ الصغار والكبار، لا تنتهي حكايات الشهادةِ والأرض، وهي زادُ المنفيين أربع رياح المعمورة، في رحم الغربةِ خيامُ العقود، التي تضمُّ الأماني والآمال والآلام، التي تحفظ التراث ولكنات القرى، لكأنَّ المجرٌات بأكوانها هنا، تلفُّها الأعلام، والأعوامُ السِمان بخيرها. والسنون العجاف ستائر الطفولة والصِبا، زنود الملاحم، والحلم لا يتبدّلُ أو يتغيّر، والطريق واحدٌ إلى فِلَسطين، لا نُهزم.


***
هنا، عبر تلك النوافذ المَطريِّةِ الشغف، قمرٌ بهيُّ الطلعةِ، شمسٌ واسعةُ الضحكات، وخيوط النظرات تُحاكُ بحُلمِ التحرير والإنتصار، عيونٌ تترسّلُ رعشات الفجر والمساء، وأمّ كلثوم تنشد "إلى فلسطين خذوني معكم".
هنا، لا ينقضي الوقتٌ، لا الذكريات، كما لو تتجدّدُ لأجل العودة، والبيوت في ما بعد، تضمُّ غرفاً متواضعة بأثاثها وأناسها، وفي كلِّ زقاق أنفاسٌ وشعارات محفوظة، خطوات غائرة نذهبُ بها بتكاثفٍ غريبٍ حفيٍّ برغم الروائح المتعارقة الهواء، وبتثاقل المرارات يتوسّعُ المكان لأرواحٍ مقبلة، لشهداءَ ملفوفين بذات الألوان، كأنّهم على موعدٍ واحدٍ للقاءٍ آخر، فلا تنكسر أرحام الأمهات.. تُنجِبُ فلذات الفدائيين، تُرى مَن علّمَ الجنين آيَ الثورة والثوّار...؟ مَن غذّى وأرضعَ حليبَ الطُهر...؟ مَن اعتمرَ ثراه ليذهبَ عميقاً في الأرواح...؟