رجال .. " برسم الأجرة"!
قد تجدُ بعضَ هؤلاء الرجال دائماً ... قد تجدُهم في الأحوال الطبيعية العادية، في الأحوال التي يسودُها الهدوء والطمأنينة، فتعرفهم بأعيانهم بسيمائهم دون تردّد، ودون تعمّق، لأنّ في هؤلاء الرجال من يضعُ على جبينه سيماءه علانية، فكأنه هو ينادي من بعيد: تعالوا أيها الباحثون عن رَجُلٍ للأجرة ... تعالوا، هاء نـذا رجلٌ باسم الأجرة !
ولكنّ هناك رجالاً من هؤلاء يمتازون بأنهم قادرون على إخفاءِ هذه " اليافطة " عن وجوه العابرين ، فلا يعرفهم الناس، بل هم قادرون على أكثر من ذلك، حتى ليكون في قدرتهم أن يخدعوا الأعيُن، فيظنّهم بعض الناس أحراراً من أصلب الأحرارقبضاً على رجولاتهم واستمساكاً بحرماتِ الإنسان في إنسانيتهم ...
إنّ أمثالَ هؤلاء ماهرون حاذقون ماكرون .. فهم بدلَ أن يُعلّقوا " اليافطة " على جباههم تراها كلُّ عينٍ باصرة ، يضعون " يافطتهم " في ضمائرهم ، أو ـ بالأصح ـ في الزوايا الخلفية التي يودِعون فيها " مومياءات " ضمائرهم ! ..
وهناك .. هناك ، على الكوى الضيّقة العفنة في دخائل نفوسهم ، يعلِّقون " اليافطة " بعيداً عن أنظار البسطاء ، والطيبين الأخيار ...
ومن هناك بالذات، ينادون همساً، وبالخفاء، وفي حلكة الظلام: أيها الباحثون عن رجلٍ للأجرة ... تعالوا، هاء نـذا رجلُ يرسم الأجرة ! ...
مَن ذا يستطيع أن يرى حقيقةَ هذا الفريق من " رجال الأجرة " ، .. مَن ذا يقدرُ أن يكتشفَ امرَهم إلاّ "الخبراء" المتمرِّسون باستئجار الضمائر، الباحثون، ليلَ نهارعن رجولةٍ مهترئة تتزيّا بأزياء الرجال خداعاً ونفاقاً، وتتلبّسُ لَبوس الأحرار زوراً ومكراً ؟ ..
من شأن هؤلاء الفريق أنهم يظلّون هكذا في صفوف أهل الكرامات زمناً طويلاً، حتى ينقلبَ هدوء الحياة في الناس إلى ثورةٍ تنفجرُ من الأعماق، من أعماق الشعب، من قلوب البسطاء، من ضمائر الطيبين الأخيار ..
وحينذاك ... تنطلقُ من براكين الثورة شهُبٌ مضيئة كاشفة، ذات إشعاعٍ خارقٍ عجيب ، فإذا بالعيون ـ جميع العيون ـ تستطيع أن ترى كلَّ شيءٍ وراء الزور والخداع والتمويه ... تستطيع أن تميِّز الرجالَ من أشباهِ الرجال ....تستطيعُ أن تقولَ لهذا: أنت من "رجال الأجرة " يا مَن خدعتنا زمناً بأنّك من رجال الكرامات في الناس .. وتستطيع أن تقولَ لذاك : أما أنتَ ، فهاتِ يدكَ إلى صفوفِ الأحرار، إلى ميادين الثورة، إلى ساحةِ الشرف والكرامة والشهامة ..
. . .
وهذه ثورتُنا المظفّرة، في لبنان، كم كشفت لأعيُن البسطاء منّا، ولأعيُن الطيبين الأخيار من شعبنا الثائر، كم كشفت مِن "يافطاتٍ" كانت تُخفيها كثافةُ الدِّعةِ المستكينة، وغشاوة الضلال القانع الخانع ! ..
في ضياء الشهب المنطلقةِ اليوم من براكين الثورة، ثورتِنا اللبنانيةِ العميقةِ القرار .. في هذا الضياء الكاشف الخارق ، نقرأ اليوم على الضمائر "المومياءات" في بعض الهياكل ، أنّ : هنا رجالٌ " برسم الأجرة " أيها الباحثون عن " رجال الأجرة " ! ..
تطلّعْ ، يا أخي المواطن الثائر.. أنظرْ هنا وهناك، حوالى الساحة، ووراء الساحةِ وفي قلب الساحة .. أنظر لترى في وهج الكفاح الأقدس ، كيف أنّ " نَفَرأ " من الرجال، كنتَ تحسبُهم رجالاً، يقفون الآن، في زحمة الدماء وزحمة النضال، يعرضون رجولاتهم لمن يستأجر الرجولات وقد أعوزتْهم الآن حتى فضالة من الحياء ! ..
إنك، يا أخي المناضل، تعرفُهم الآن واحداً واحداً.. إنك على الوثبةِ الأخيرةِ إلى النصر، وعند ذاك ستحطّم " اليافطاتِ" كلَّها، وستحرق " المومياءاتِ" جميعَها .. وإلى اللقاء.
*كتبت هذه المقالة في 25 حزيران/يونيو 1958.
********
... ورجال برسم الانحياز للمنتصر !
... وهذا صنفٌ آخرُ من الرجال ما كنتَ لتعرفَهم ، أيها الشعب ، لولا أنها الثورةُ هذه هي الوقيدُ من غضبِك ، واللهيبُ من نقمتِك ، والحريقُ من لهَفاتِ وجدانكَ وطَمَحاتِ أشواقِك ..
ماكنتَ ، أيها الشعب ، لتعرفَ هذا الصنفَ منَ الرجال ، لولا أنكَ الثائرُ المجاهدُ الآن ، ولولا أنّ ثورتَكَ هذه تصهرُ معادنَ الرجالِ من كلِّ نوعٍ وصنف ، حتى تُمثِّلَ الأصيلَ في الرجولاتِ منَ الدخيل ، وتعلمَ أيَّ المواقفِ هو الحقُّ الثابتُ السليم ، وأيَّ المواقفِ هو الباطلُ المتزلزلُ الكذوب!
هذا الصنفُ منَ الرجال، هو صنفُ الذين يختارون مواقفَهم حيث يرَوْنَ القوة، وحيثُ يتشمّمون ريحَ الغَلَبَة ، فهم متزلزلون أدعياءُ كذّابونَ دائماً، لا يستقرُّ بهم الموقفُ الذي يختارون إلاّ ريثما تَرجَحُ كلمةُ القوة، ، وتميلُ ريحُ الغَلَبَة، فإذا هم سريعاً ما يغيِّرون مواقفَهم، وسريعاَ ما ينحازون عن مواقِعِهم ، وسريعاً ما يُبدِّلون صفّاً بصفّ وصديقاً بصديق، ووليّاً جديداً بوليٍّ قديم ..
هؤلاء الرجال، هم دائماً وأبداً معكَ أيها الشعب، وعليكَ في وقتٍ واحد، هم أصدقاؤكَ وأعداؤكَ في آنٍ معاً ، هم يضعونَ قَدَماً في أرضِكَ الطيبةِ الشريفة، وقَدَماً أُخرى في أرضِ الخوَنةِ والأرجاس، حتى إذا رأوْا أنكَ أنتَ المنتصِرُ في المعركةِ لا محالة، نقلوا قَدَمَهم الأُخرى إلى أرضِك ، ليوهِموكَ أنهم من رجال المعركة ، معركتِكَ .. وربما بسطوا بين يديْكَ أكُفَّ التوبةِ والضراعة وربما مسحوا الدمَ المقدَّسَ على جبينكَ متظاهرينَ بالحّدْبِ على جراحِكَ ، وبالحنوِّ على جهادك .. وربما فرَّطوا بالمكرِ والخداع، فحملوا معك رايةَ النضال، حين يكونُ النصرُ قد أوشكَ أن ينعقدَ في رايتِك .. وربما تنكّبوا معكَ السلاح ، حين هم يعلمون أنْ لا حاجةَ ـ بعد ذاك ـ إلى خوضِ معركةِ النار، وحين هم يوقنونَ أنَّ مصيرَالمعركةِ قد تقرَّر فوْزاً إلى جانبك!
عليكَ الآن، أيها الشعبُ الثائر أن تحذرَ هؤلاء الرجال .. عليكَ أن تحترسَ من انحيازهم إلى صفِّكِ بعد أن وقفوا طويلاً معَ أعدائكَ يظاهرهم عليك، ويشدُّ أزْرَهم في الكيْد لك، وينفحُهم بالقوة، ولو بعضِ القوة في قتالِهِم إياك ..
ربما كنتَ تحتاجُ إلى معونتهم يومَ أنتَ في صميم المحنة .. وربما كان لك فيهم بعضُ العون حين أنت في غمرة الشدائد .. ولكنهم حينذاك لم يبالوا محنتك، لم يَحدِبوا على قضيتك، لم ينظروا إلى أمرك إلا مستَعْلينَ عليك، مستكْبرين شأنَ أعدائك، كائدين لثورتك كلَّ الكيْد ، ظنّاً منهم أنك المغلوبُ في النهاية ، المبطل في ما تقصد من أهداف، وأنك الخارجُ عن "شرعية " العهد الشمعوني الذي تثورُ به وتحاربُ فسادَه وانحرافَه !
لقد رأوْك في الساحةِ تتلقّى النارَ بصدرك .. لقد رأوْا جراحاتِك تسيلُ دماً غزيراً، ورأوْا شهداءَكَ يتسارعون قوافلَ قوافل إلى مصارعهم ، لقد رأوْ أرضَكَ تنتشرُ فيها القذائف ، ونحرَك يتمزّقُ بالرصاص ، وبيوتك تحترق بالنهب ..
ولكن، ماذا فعلوا حينذاك ؟ أنت تعلم أيها الشعب، أين كان موقعُهم ..
هذا الصنف من الرجال، أيها الشعب الطيّب، أدهى خطراً عليكَ وعلى ثورتك المقدّسة من أولئك الذين كشفتْهم اضواءُ الثورة ، فعرفتَ أنت مكانَهم، وكشفتَ مواقعَهم ، وعلمتَ أنهم " رجالُ أجرة " ينحازون إلى صفِ مَن يدفعُ الأجرة، وهو صفُّ أهلِ الباطلِ دائماً ، فأنتَ ـ إذن ـ في مأمنٍ من خطرهم، لأنهم في المكان الواضح الفاضح .. لأنهم منكشفون لعيْنِ الثورة النافذة الكاشفة .. لأنهم في الصف البعيدِ عن ساحةِ الشرف: ساحتِك .. لأنهم لا يجرُؤون أن يَدقّوا بابَ الكرامة : بابكَ ..
وأما هؤلاء الرجال الآخرون، الذين هم دائماً " برسم الانحياز للغالبِ المنتصر" آخر الأمر .. أقول : أما هؤلاء فيدخلون بيتَكَ من غير بابه .. هؤلاء يأتونكَ ضارعين، وهم ينتظرون أولَ عثَرَةٍ تقعُ بها، فلا يكتفون أن ينصرفوا عنك، بل هم يركُلونكَ كيْلا تنهض، بعدُ ، من عثرتكَ ثم ينحازون إلى أعدائكَ متضاحكين ساخرين ..
أيها الشعب الطيّب المجاهد ، إحذرْ هؤلاء الرجال .. لا تكشِف لهم صدرَكَ كلَّه .. ولكَ النصر ، ولكَ المجد.
*كتبت هذه المقالة في 26 حزيران/يونيو 1958.