وها سبعُ سنواتٍ انطلقتْ، منذ يومِكَ الهائل، انطلاقةُ الشهاب، تُنيرُالطريقَ العربي، طريقَ التحرّرِ والتبصّرِوالتجدّدِ في الأرض، أرضِنا العربية الحُبلى منذ أجيال، بمواكبِ الثوّار ..
وهذا الموكبُ الذي كنتَ القائدَ الأمينَ البصيرَ في قادتِه وطلائعِه يتلفّتُ اليومَ في ذكراك إلى الشوْط الكبير العسيرالذي اقتحَمَتْه المسيرةُ العربيةُ التحرّرية في السنواتِ السبعِ الماضيات، على الطريق ذاته، فإذا هو يلمحُ يدَكَ، التي حملتِ الرايةَ بأمانة، وتشبّثتْ بها ببطولة، تُشيرُ إلى المواكبِ المجتمعةِ المتلاقية في طريقٍ واحدة وكأنك تقولُ لها ـ لهذه المواكبِ جميعاً: هو ذا الأمرُالعظيم الذي كنتَ مع الأخيار تُجاهدُ من أجل أن يكون ...
السنواتُ السبعُ الماضيات، لم تكنْ ـ أيها الشهيد الخالد ـ سنواتٍ عجافاً كما يريدُ أعداءُ الحريةِ وأعداءُ شعبِنا العربي أن يَرَوْها، لأنهم لا يستطيعون أن يُبصروا الضياءَ إلا ظلاماً، ولأنهم لا يطيقون أن يفتحوا أعينَهم على المشاعل في انطلاقتها مع حركةِ التاريخ وهي تحرقُ الكمائنَ التي ينصبون، وتهدمُ الأسوارَ التي يشيِّدون، وتمحقُ رؤوسَ الأفاعي التي يُرسلونها على مواكبِ الحرية تنفثُ أخبثَ السموم ..
هذه أرضُنا الحبلى تلِدُ الموكبَ بعد الموكبِ اليومَ تباعاً وسراعاً .. وهذه رايةُ الحريةِ والاشتراكية التي أعليْتَها، تتّسعُ وتتّسعُ كلَّ يوم ، خفّاقةً ملءَ الأرض في وطننا العربي كلِّه وهذه المُثُل الإنسانيةُ العظيمة التي نذرتَ لها عمرَكَ وفكرَك وأحلامَ قلبِك جهاداً متواصلاً صابراً صامداً، تتفجّرُ لها، من هنا وهناك، ينابيعُ السواعدِ والأفكارِ والصفوف وهي تتلاقى اليومَ وتتعانقُ من كل وجهةٍ في المدى الفسيح، لتمضيَ معاً، في المجرى الواحد، نهراً عظيماً زاخراً هادراً تنبتُ على جانبيْه راياتُ الثورة التحررية، وجحافلُ الثائرين الصامدين إلى وجه الحرية ..
ألا هل تُطلّ علينا الآن من وراءِ السنواتِ الماضيات، لترى مسافةَ الشوْطِ الذي اقتحمناه ظافرين، ولترى أسلابَ المستعمرين والرجعيينَ أكداساً في أرضِنا وفي أيدي جماهيرِ شعبنا إلى جانبِ أكداس ٍ من مكاسبِ اللقاء التحرري والثوري بين قوى الحرية والتقدم جمعاءَ في أوطاننا، وفي أوطان الإنسانيةِ جمعاء ؟ ..
وأنتَ أدرى أيها القائدُ المعلّم، أنّ ما تُبصرُه عيناكَ اللمّاحتان، في ثنايا الأكداس هذه، من أحابيلَ يَنْصبُها أعداءُ شعبنا في طريق الثورةِ الزاحفةِ الظافرة، وإنْ جمعوا لها كلَّ كيْدِهم ومَكرِهم وحشدوا كلَّ سلاحٍ قديمٍ أو جديد من أسلحتهم، لن تستطيعَ ـ بعدُ ـ أن تدفعَ عنهم موجةَ الطوفان، ولا أن تردَّ عنانَ التاريخ عن شوْطِه الصاعد ، ولا أن تُطفئَ مشاعلَ اللّهَبِ وهي تسري في هشيمِ أحلامهم ومطامعهم ومكائدهم جميعاً ..
أراني الآن أُحدّقُ في عينيْك يطفحُ من صفائهما العميق نبعان من حنان القائد المجاهد، إذ ترى صفوفَ المناضلين في المعركةِ العربية، من مختلفِ فصائل الجيش التحرّري التقدمي ، وهم يتباشرون على رقعةِ الجبهة كلِّها متنادين إلى سدِّ الثَغَرات القديمة حيثُ كان أعداءُ شعبنا ، أعداءُ الحرية والتقدّم، أعداءُ الاشتراكيةِ العلمية ذاتِها، يَنْفَذون منها إلى الصفوفِ هنا وهناك يرجَوْن أن يقطعوا طريقَ التحررالوطني والاجتماعي، أو يعوقوا ـ بالأقل ـ مسيرةَ شعبنا في هذا الطريق ..
يالِحنانِ عينيْكَ يسطعُ بالفرح النبيل، فرحِ المناضلِ الأمين ، وأنتَ ترى هذي الصفوفَ تتنادى إلى جمعِ طاقاتها معاً تبني بها السدَّ العظيمَ الراسخَ الذي سيتحوّلُ بطوفانِ الثورة العربية إلى نظامٍ يوزّع الخصبَ والخيراتِ في وعيٍ ثوريٍّ عميقٍ سليم، وفي قدرةٍ على التخطيطِ والتنسيقِ والتلاحمِ الفكريّ البنّاء ..
إنك لَترى بعينيْك النابعتيْن دائماً بهذا الحنان الهادىء، وحدةَ القوى العربيةَ التحرريةَ التقدمية وهي تتجمّعُ وتحتشدُ في ساحةِ المعركة، لتكونَ هي مالكةَ زَمامَ التاريخِ بإرادتها الواعيةِ المتكاملة، ولتكونَ هي التي تقطعُ الطريقَ على قوى الاستعمار الجديدِ وأحلافه من بقايا الإقطاعيين وأجنادِ الرجعيين بمختلف فصائلهم، ولتكونَ هي الحاملةُ أعلامَ النصرِ في المعركةِ القائمةِ الحاسمة ..
إنّ ذكرى استشهادِك البطولي لَتنتصبُ اليوم أمام رفاقِك المخلصين الصامدين منارةً تلهَم خُطاهم في طريقِ النضال الجديد .. نقولُ الجديد، لأنه يسيرُ في أرضٍ جديدة، تتكدّسُ على صعيدها الفسيح مكاسبُ من نضالك ونضالِ الرفاقِ الأوّلين، ومكاسبُ من كفاح شعبنا العظيم، ومكاسبُ من نتاجِ قوى الثائرين الوطنيين والتقدميين الآخرين في أرضنا العربية ، ومكاسبُ عظيمةٌ شامخةٌ مهيبة كدّستْها على أرضِ التاريخ البشري الحديث قوى الثورة الاشتراكية العالمية الخلاّقة تتقدمها الطليعة المجيدة الكبرى: الاتحاد السوفياتي ..
لم تكن سنواتُنا السبعُ، منذ استشهادِكَ الملحمي، سنواتٍ عجافاً كما يزعمُ أعداءُ الحريةِ والتقدم ..
إنّ أرضَنا الجديدة تزخر بالحياةِ والخَصبِ والمكاسبَ الكبار، بقدر ما تزخرُ أرضُ الأعداء بالأوراقِ البالية الصفراء تتساقط بآمالهم وأحلامهم ومكائدهم تحت أرجلِ الثائرين الزاحفين صفوفاً متلاحمة إلى الغدِ المضيء ..
***
لكَ البشرى، يا أبا بشرى، بأنّ افكارَكَ الهادية هي اليومَ تزرعُ المناراتِ العاليةَ على جوانبِ المعركةِ الحاسمة، وإنّ الموكبَ الذي كنتَ القائدَ الأمينَ في قادتِه الأمناء يمتدُّ طويلاً طويلاً وعليه تخفقُ الرايةُ التي حملتَ بشرفٍ وبطولة.
* نُشرَت هذه المقالة للمفكر الشهيد حسين مروة في جريدة "الأخبار" (جريدة الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك) بتاريخ 26 / 6 / 1966، بمناسبة الذكرى السابعة لاستشهاد القائد البطل فرج الله الحلو .