وفي مطلع ثلاثينيات ذلك القرن كان محمد علي باشا، الذي وعده السلطان محمود الثاني بإقطاعه أراضٍ في اليونان لقاء قمع الثوار اليونانيين، قد ضاق ذرعاً بعدم وفاء السلطان بوعده. تمرّد محمد علي وجرّد ابنُه ابراهيم باشا حملة احتلت أراضي السلطنة في سوريا ولبنان وما بعدهما. مقابل مساعدة السلطان على مواجهة محمد علي، ضغط بريطانيا على السلطنة لتوقيع اتفاقية بلطة ليمان في آب 1838.
فتحت الاتفاقية المذكورة أسواق السلطنة أمام رأس المال البريطاني والأوروبي. فقد حُددت التعرفات الجمركية في السلطنة عقب الاتفاقية بـ 3% على الاستيراد و12% على التصدير. عنى ذلك انخفاض كلفة استيراد السلع المنتجة بكلفة أدنى أصلاً في بريطانيا، ما يضرب الإنتاج المحلي الذي رُفعت كلفة تصديره للخارج. تبعاً لذلك مثلاً استُبدل القطن المنتج في سوريا بالقطن الأوروبي المستورد.
بعد عشر سنوات سيلاحظ كارل ماركس وفريدريك انجلز هذا النسق في ديناميات الرأسمالية، ويكتبان في بيان الحزب الشيوعي عام 1848: "الأسعار الرخيصة لسلعها ]البرجوازية[ هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها".
بدأت صناعة النسيج بالتصدّع بفعل تنافسية السلع الأوروبية. بحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر وبدأت زراعة التبغ بالنهوض. عام 1881 كانت زراعة التبغ وتصنيعه وتجارته في أراضي السلطنة تخضع لسلطة إدارة الدين العام العثماني التي أنشأها الدائنون الأوروبيون. وقد انتزع هؤلاء الحق بجباية الضرائب من زراعة التبغ داخل أراضي السلطنة والإشراف عليها عبر إدارة احتكار التبغ "الريجي" فيما كانت أراضي المتصرّفية متحرّرة من هذه القيود.
مع حلول القرن العشرين كانت قطاعات الحرير والنسيج قد بدأت بالانهيار بفعل التنافسية الناتجة عن تشابك الأسواق اليابانية والهندية والصينية بتلك الأوروبية. ثم كانت الضربة القاضية مع الكساد الكبير عام 1929، حيث انهار الطلب على المنتجات اللبنانية. بالتوازي كانت زراعة التبغ تأخذ بالازدهار أكثر فأكثر في عديد من المناطق من بكفيا إلى السهول غير المروية في جنوب لبنان. رغم ذلك، بحلول عام 1948 كانت زراعة التبغ تستحوذ على 3% فقط من الأراضي الزراعية في جنوب لبنان يشتغل فيها ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف مزارع.
بيدَ أن كارتيلات التجارة الخارجية المتنفّذة منعت تطوّر بعض الزراعات المحلية كالتبغ لصالح استيراد هذه السلع. أدى ذلك لتدهور زراعة الكفاف وزراعات الحبوب و"بَرتلة" سكان الأرياف، خصوصاً الجنوبية منها، الذين هجروا الزراعة والريف تحت وطأة الإفلاس والديون إلى المدن وأحزمة البؤس فيها. حال ذلك دون تطوير زراعة التبغ ما أبقى على أسعار التبغ متدنية وأحوال العاملين فيها بائسة.
اليوم، تشير التقديرات إلى أن أعداد العاملين في زراعة التبغ تبلغ قرابة 17 ألف عائلة إلى جانب عدد غير محدد من اليد العاملة السورية بشكل أساسي. قبل الأزمة كانت الدولة تدعم الأسعار فتتسلّم إدارة حصر التبغ والتنباك المحاصيل وفق سعر وسطي بـ 13 ألف ليرة تساوي 8.5 دولارات.
لم تكن العوائد المحققة كافية لإعالة العائلات. ولم يحصل مزارعو التبغ طوال ثلاثة عقود تلت نهاية الحرب على تغطية الضمان الاجتماعي التي وُعدوا بها. كل ذلك رغم ملايين ساعات العمل كانت تبذلها عائلات بأكملها وأجَراء في الاشتغال بهذه الزراعة على مدار العام من الفجر إلى العصر.
فجّرت الأزمة الاقتصادية كل حقل الألغام المتمثل ببنية الاقتصاد اللبناني. وبعد عامين على الأزمة ورفع كل أشكال الدعم، أُنجِزَتْ عملية تحرير الأسعار ودولرتها. بدأ المزارعون بالانتباه إلى أنهم يشترون البذور المستوردة، بالدولار. وانتبهوا أيضاً، تبعاً لذلك، إلى خبث الشركات الاحتكارية الزراعية التي تهندس بذورها جينياً لتفرض على المزارعين شراء بذورها كل موسم من دون القدرة على استخدام البذور المنتجة من الموسم السابق. ومع تحرير أسعار الطاقة، برزت كلفة الحراثة والريّ.
مع تحرير الأسعار بات المزارعون بوضعية الانكشاف التام. اليوم، باتت اجتماعات منظمة أوبك وما تحدده من إنتاج لبراميل النفط وبأية أسعار، باتت هذه تحدد كم مرة سيروي المزارعون في لبنان حقولهم!
ويقف مزارعو التبغ في لحظة تسليم محصولهم هذا العام أمام إجراء عدوانيّ تشنّه الريجي بعدم احتسابها أكلاف الزراعة والمعيشة المستجدة، وتعنّتها بتسعير كيلو التبغ بين 40 و50 ألف ليرة لبنانية ما يعادل دولارين فقط للكيلو بأسعار الصرف الحالية.
هو سطو صريح، استغلال شديد الكثافة، لعمل وجهود المشتغلين بزراعة التبغ طوال هذا الموسم. وإدارة الريجي قادرة بحكم تمتعها باحتكار التجارة بمنتجات التبغ الذي تقوم بها على أساس أسعار الدولار، أن تقدّم تتسلّم المحاصيل وفق الأسعار التي يطلبها المزارعون، والتي تتراوح بين مئة ألف ومئة وعشرين ألف ليرة، أي خمسة وستة دولارات للكيلو. هذا هو الحلّ هذا العام.
بيدَ أن الحل الحقيقي لهذه المسألة لا يمكن أن يكون بدعم زراعة التبغ ولا بالسعي للمحافظة عليها. وفق "الرؤية الاقتصادية للبنان"، التي أعدتها شركة ماكنزي بناء على طلب الحكومة اللبنانية عام 2017، فإن زراعة التبغ هي من ضمن الزراعات ذات القيمة المضافة الأدنى. وقد نصحت الدراسة بالتخلّص منها والانتقال لزراعات ذات قيمة مضافة أعلى كالبندورة والأفوكا.
إن ما نشهده اليوم هو إعادة هندسة مجتمعية شاملة. وهي إعادة إنتاج لمجتمع جديد وفق نموذج جديد. وهي عملية صراعية إن كانت تتسم بلاتكافؤ موازين القوى. لكن جزءاً من المعركة هو ألا نسمح بإعادة بثّ الروح في مومياءات النموذج القديم وشياطينه ومنها زراعة التبغ. وهنا يمكن للشعار أن يكون أوقفوا زراعة التبغ الآن من أجل الانتقال إلى نشاطات وزراعات أكفأ. والانتقال هذا لا يمكنه أن يكون فردياً ومتروكاً للمبادرات الفردية، بل عملية مُدارة من قِبل الدولة التي يجب أن يُخاض الصراع في ميادينها لإجبارها على التصدي لهذه المهام.