إن ما واجهه وعينا العام المستجد من حملات إعلامية شتّى كان عنيفاً ومضلّلاً لا بل أعطى الشرعية لجميع التيارات التي إرتفعت جميعها فوق النقد فهناك من رقص ومن عاتب التكسير ومن رمى المولوتوف، من المؤكد أنّ جميعها مؤثّرٌ لكن أجميعها مفيدة؟ وهنا السؤال فلتقيّم جدوى عملٍ ما عليك أن تحدد الهدف المرجو وحسب أي تقييمٍ تقيس، بالعودة إلى أبرز الهتافات والشعارات نرى أنّ الغالبية متّفقةُ على ضرورة التغيير وإسقاط هذه الطبقة الحاكمة ولعلّ الهتاف العربي الأبرز كان "الشعب يريد إسقاط النظام" لكن هذا في الظاهر لكن لا قيمة عملية لأي شعار إن لم يكن تعبيراً عن رؤية سياسية متكاملة تحليليّة أولاً وهادفة ثانياً فكيف لأي حركة تغيريية أن تتموضع إن لم تلحظ ما يدور وما يحضّر على الساحة الدولية للمنطقة وإن لم تحدد موقفاً من القضايا الإقليميّة وأبرزها الصراع مع الكيان الصهيوني أيضاً من تلك الرؤية السياسية ينبثق شكل إقتصادي للدولة فدونه لا جدوى من التعليق على قضايا المال والإقتصاد فيكون جلّ كلامنا ردة فعلٍ مندثرة. وقد حددنا ماذا نريد كيف لنا أن نقيّم عملاً ونحن لا نعلم أصلاً ما العمل المطلوب، وهنا يأتي دور الإيديولوجيا والسياسة: تعريف، تحليل، تفكيك ومن ثم تركيب. أهو نظام طائفي، إستبدادي أو رأسمالي، أنحن تحت الحكم الأميركي، الخليجي أو الإيراني، من المسؤول الأول المصارف أو رياض سلامة أو زعماء المافيا أم خصيصاً محور الممانعة، أهو حصار أو إنهيار؟ في الحقيقة هو كل ذلك وأكثر لكن من بإمكانه إستيعابه وأيضاً من كان بإمكانه إستيعاب اللحظة. لا يجب أن نضيّع المعرفة، فإنّ التغييريّن وخاصة اليسارييّن منهم والشيوعييّن أكثر بعد قد قضوا عقوداً يرافقون الدولة المنهارة منبّهين بالمقالات والمقابلات والتثقيف تارةً وبالمظاهرات والإضرابات تارةً أخرى وهنا سأسترسل قليلاً للحديث عن مدى تأثير الخطاب اليساري وإمتداده في فترة ما بعد الحرب بالطبع بشكل عام حسب ما يسعفني إلمامي، خرج الشيوعيون من الحرب مع قافلةٍ كبيرة من الشهداء والضحايا ولكن مع إتّحاد سوفياتيٍ منهار، مع إقتتالٍ يساري يميني متعدد الطوائف على مساحة واسعة مغايرة الملامح، مع إقتصاد نيوليبرالي وتدمير للصناعة ونقابات العمال، مع خيانة عربية وعالمية للقضية الفلسطينية وتطبيع مع الإستعمار، مع سيطرة شبه كاملة على الإعلام، مع إنقسامات عامودية وأفقية للمجتمع وإنقسامات داخل الحزب وفي محيطه...إذاً لم يكن من السهل أبداً إعادة الإتّصال المطلوب ونشر الوعي الإقتصادي والسياسي هذا في ظل ركودٍ فكري وإغتيالات لشخصيات مهمّة مساهمة وبطش مخابرتي وأمني من قبل السلطة لكن أيضاّ لا نغض الطرف عن تقصيرٍ وخمولٍ في النهوض ومعاودة العمل مع الحاجة الماسة الى التفكير في مقاربةٍ حسيّة جديدة لواقع الجماعات وخاصة الشباب فتركّز بذلك قسم كبير من العمل في بيروت وربما ليس ببعيدٍ عن شوارعها الرئيسيّة في مقابل تراجعٍ متدهور في المناطق والبلدات البعيدة عن العاصمة مع العلم أنّ الحركة في هذه المناطق سابقاً كانت ناشطة ومؤثرة حتّى على المركز. لسنا أبداً في وارد المعاتبة بل هي دعوة الى إنفتاح متقدم ومتنامي وتعاون سهل مع الشباب في مختلف المجالات لتكون معركةً قاعديّة يوميّة لا تفسح المجال أمام السلطة لتطمئن، هي المأزومة اليوم بين سندان الإنهيار ونظامها ومطرقة الخريطة السياسية العالمية الجديدة، هي فرصتنا نحن لتوجيه أعتى الضربات إليها فإن كانت تقع دعونا نشحذ سكاكيننا.
كيف لي أن أصرّ وأدعو ونحن منهكون، صحيحٌ أن الثورة من أحياء الفقراء وهي الرد التاريخي إنتقاماً لجميع المظلومين لكنّ أليست الثورة شهيّةٌ أكثر ببطون ممتلئة وإطمئنان على صحّة وسلامة الأهل وبمقدرةٍ على التغيّب عن العمل والوصول الى المظاهرات وقضاء الوقت ألهذا كنّا كثر في 17 تشرين ألأنّها كانت شهيّة؟! أهكذا هي الثورة في القرن الواحد والعشرين أو أنّها لم تكن ثورةً في الأصل ولقد خدعونا كما يلبس الأهل الولد عباءةً وينادونه سوبر مان والآن قد إكتشفنا أننا لا نطير وبتنا بحاجة الى من يعالج خيبتنا. وهنا بعض من الحديث على العلاج النفسي والصحة النفسية التي ينتشر الوعي عنها بشكل متسارع وهذا ضروري ليطال فئات أوسع وبالطبع عليه أن يتعامل مع تناقضات المجتمع اللبناني وهمومه فيتقاطع مع النسوية وعلم الشباب وشؤون اللجوء والإغتراب عن الواقع وغيرها من المسائل ولكن من جديد يظهر الفرق بمقاربة الصحة النفسية إنطلاقاً من التيارات السياسية-الإقتصادية وهذا بالأمر المفصلي إذ إن الليبرالية تعود لتفرّق الفرد عن الجماعة وتضعه في فقاعةٍ نفسية يتحمّل فيها الفرد المسؤولية عن مجريات حياته وتنسب ما ليس في قدرته الى المجهول معزفةً الفرد عن التفكير بأصل الظواهر فلا علينا من الإنهيار أو من الفقراء في العالم أو من التغيّر المناخي لتمسي أكثر النضالات جذريّةً هي التطوع مع الجمعيات الغير حكومية، أسمى مراحل الإنسانية الليبرالية، ولنفرّق الأزمات عن بعضها البعض ونقوم بخطوات تافهة مقابل وحشية الأنظمة الرأسمالية والإستبدادية فنوزّع غروز الأرز ونستبدل الأواني البلاستيكيّة في المطاعم أو نوقّع عريضة من أجل إسقاط الرئيس... العلاج النفسي هو فرعٌ من الطب له مناهجه وعلمه بالطبع لكن ليس بالزيارات المتكررة نعالج الجماعة وإن كان بالمجان، إن شعورنا باليأس والإنهزام ليس أمراً شخصيّاً والعلاج رغم ضرورته لن يعوّض عن إنهيار الدولة من بنى تحتيّة وخدمات أساسيّة ولا عن غياب مساحاتنا العامة التي من خلالها نتشارك أزماتنا ومنها ينطلق الحلّ ولا عن غياب الغاية في ظلّ القيمة-السلعة... كمن يجلب الكاهن للمحكوم بالإعدام كي يشعر بالرضى عما سيحصل. إذاً فليكن كلّ ما نفعله عضويّاً ومرتبطاً وموجّهاً وبموقف نقديّ لنواجه الحياة. من هنا الحاجة مجدّداً الى التنظيمات الجماعية والى القيادة الديمقراطية التشاركية بين الأفراد نحو وجهةٍ عامة موحّدة تعطي القيمة الى الحياة الفردية وتجمعها مع الحياة العامّة فيكون تطلعّنا الى المستقبل هو المحرّك ومدعاة الأمل لأنّ الهجرة على الرّغم من الفرصة الفردية سيرتطم خلالها الحلم بالحدود الرأسمالية للرغيد والقيمة ليكون الإنجاز الأكبر هو تحمّل كلفة سفرةٍ بين بلدان قارة أو شراء ساعة إضافية من عدم العمل لكن ليس بالضرورة الراحة. أيضاً في ضحد روايات السلطة أنّ الواقع الطائفي متأصّل في لبنان وأن لا إمكانية لشكل آخر أو أنّ الإقتصاد الحرّ إقتصادٌ فينيقي لا ناجح غيره وأنّ الإشتراكية فشلت نهائياً أو أن لبنان بحاجة دائمة الى أمّه الحنونة. لا شك أنّ لبنان ملفٌ للتداول الدوليّ وأنّه ملتقى لصراعات إقليميّة وأنّ مرفأه يستقبل الإقتصاد العالمي لكنّه أيضاّ يضمّ شعباً شاباً عاملاً ومروحةً واسعة من المثقفين الأكادميين والسياسيين وجغرافيا خصبة غنيّة تحصر بين حدودها خطوط نقلٍ تاريخيّة أي أنّ فيه من القيمة الوطنيّة ما يفيض عنه التي بالتأكيد إذا إنتظمت شكّلت كتلةً راجحة تضع مشروعاً مستداماً يضع حدّاً ويراوغ الأطماع الدولية وخطر الكيان الصهيوني والأهم هو إعادة الإتّصال بين الأرض وشعبها ليكون للأخير إرثٌ حقيقيّ وليكون تاريخٌ هو صنعنا نحن.