على مستوى الاقتصاد الكلي، يرجّح أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي هذا العام بنسبة ٢٥ ٪ عمّا كان عليه العام الماضي، بفعل تضافر الآثار التراكمية للانهيار الاقتصادي والمالي وجائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت. وسوف يترجم هذا الأمر لا محال بإغلاق المزيد من المؤسسات وزيادة موجات البطالة والفقر والهجرة إلى مستويات قياسية وغير قابلة للاحتمال، وبخاصة في صفوف الشباب. وستكون حدّة الانكماش الاقتصادي مرشّحة للمزيد من التفاقم لاحقاً كلمّا تأخر زمن المعالجات الجدية والمسؤولة التي تفتقر السلطة الحاكمة إلى الأهلية والقدرة على توفيرها، وبخاصة في ظل انهيار الثقة في القطاع المصرفي الذي كان مؤتمناً على جمع مدخرّات الناس وحفظ سلامتها، وإذ به يحوّلها اليوم إلى "سمك في البحر"، فارضاً – بالتواطؤ مع الدولة ومصرفها المركزي - تطبيق أسوأ صيغ الكابيتل كونترول التي تغاضت فعلياً عن تهريب الكثير من أموال السياسيين والمتنفّذين وكبار الرأسماليين إلى الخارج فيما أخضعت عملياً ودائع صغار ومتوسطي المودعين إلى أسوأ أنواع الهيركات المغرق في تحيّزه الرجعي من الناحية الاجتماعية والطبقية.
وعلى مستوى المالية العامة والحسابات الخارجية، استمرّ العجز المالي – المترافق مع تراجع معدلات النموّ الاقتصادي - يشهد المزيد من التفاقم بسبب التراجع الحاد في معظم إيرادات الدولة، الذي لم يواكبه تراجع مواز في قيمة النفقات العامة حيث بقي جزء كبير من هذه النفقات عصيا على التخفيض بسبب ترسّخ الهدر والفساد والعلاقات الزبائنية في سياسات المنظومة الحاكمة. كما استمرّ العجز المثير في ميزان المدفوعات والحساب التجاري بفعل استمرار تعطّل كل القنوات التي كانت تتدفّق عبرها العملات الأجنبية إلى لبنان قبل عام 2011. ومن أهم تلك القنوات التي كانت توفّر في العادة تدفقات مالية إلى لبنان تراوح قيمتها بين 12 إلى 15 مليار دولار سنوياً: صادرات لبنان من السلع وخصوصاً الخدمات، وتحويلات العاملين اللبنانيين في الخارج، وتدفقات الاستثمار الأجنبي غير المباشر.
وعلى المستوى النقدي، وبالارتباط الوثيق مع الخلل الكبير في المالية العامة وفي الحسابات الخارجية للدولة، نشأت تباعاً 4 أو 5 أسعار للعملة الوطنية، وذلك لأوّل مرة في تاريخ نظام الاقتصاد "الليبرالي" في لبنان، وخلف تعدّد هذه الأسعار يجري إخفاء أكبر عملية قصّ شعر يتعرّض لها صغار المودعين ومتوسطيهم. مع العلم أن هذا الوضع مرشّح للتفاقم أكثر في المدى المنظور كلما استمرّ غرق المنظومة الحاكمة في حساباتها التحاصصية والزبائنية الضيّقة وكلما ترسّخ استهتارها بعامل الوقت. وقد أدّى التدهور في سعر صرف الليرة إلى ارتفاع قياسي في أسعار الاستهلاك وتكاليف المعيشة، حيث تجاوز معدل التضخم نسبة 100% بين آب2019 وآب 2020، والآتي على هذا الصعيد قد يكون أعظم إذا ما قرّر مصرف لبنان فعلاً وقف دعم أسعار استيراد الدواء والمحروقات والقمح التي تشكّل ما بين ربع وخمس اجمالي قيمة سلّة استهلاك الأسرة في لبنان. وفي هذه الحالة – أي في حال وقف الدعم - يتوقع خلال أسابيع معدودة حصول زيادة إضافية في الأسعار بنسبة لا تقل عن 60%، مما سوف يؤشّر إلى كارثة اجتماعية تتهدّد أكثر من ثلثي الشعب اللبناني، الذين سوف يفرض عليهم الالتحاق قسراً بجيش الفقراء و/أو بجيش العاطلين عن العمل. والمتوقّع بعد رفع الدعم أن تنخفض القوّة الشرائية للأجر الوسطيّ إلى ثلث ما كانت عليه قبل ١٢-١٥ شهراً، أي عشية الانتفاضة. وسوف يرافق ذلك – وربما هذا هو الأكثر خطورة - انهيار مؤسسات الحماية الاجتماعية، لا سيما المؤسسات الضامنة وعلى رأسها صندوق الضمان الاجتماعي وأنظمة الحماية الصحية وتعويضات نهاية الخدمة ومعظم مؤسسات التعليم الرسمي، العام والجامعي.
إفلاس المنظومة السياسية الطائفية الحاكمة، حيث طغت على ردود فعل القوى التي تتشكّل منها هذه المنظومة مظاهر العجز والفشل والاستهتار وانعدام الفعالية إلى جانب محاولة البعض التموضع الصريح ضمن أجندات خارجية مشبوهة أو الهروب إلى الأمام عبر القفز من "المركب الغارق" والالتحاق المجوقل بركب الانتفاضة. وبالرغم من تفاقم عوامل الأزمة على المستويات كافة، فانّ أطراف الحكم لم تبادر فعلاً إلى اتخاذ اي إجراء لاحتواء مفاعيل هذا التفاقم وتداعياته. والأمثلة كثيرة ومعبّرة في هذا الإطار: مثلاً، كان ينبغي بداية تحديد حجم "الثقب الاسود" (أي الخسائر المالية التي يتقاسمها مصرف لبنان والمصارف والدولة)، وهذا أمر كان يمكن إُنجازه في غضون أقلّ من شهر إذا ما صفيت الارادات والنوايا. ولكن بدلاً من ذلك، تحوّل هذا الملف عن سابق تصميم واصرار إلى ملف خلافي على الطريقة اللبنانية، ودخلت على الخطّ فيه - إلى جانب مصرف لبنان ووزارة المال - قوى من داخل السلطة (من صلب القوى الحاكمة ومن معارضيها التقليديين) ومن خارجها، بما يشمل أركان القطاع الخاص، لا سيما جمعية المصارف، فضلاً عن العديد من المنظمات الدولية الخاصة والأممية. وهكذا بعد مضي عام على الانهيار، لم يتوصّل الحكم إلى تحديد حجم هذا "الثقب الأسود" ولا الآليات التي تضمن توزيع خسائره بشكل عادل. وهذا التمييع المقصود عن "سابق تصميم واصرار" سمح للمصارف ومصرف لبنان بأن يبادرا من تحت الطاولة إلى تنظيم أكبر وأسوأ عملية هيركات في التاريخ الحديث. وتضمّنت هذه العملية: أولاً، فرض تطبيق المصارف (بطرقها الخاصة) لسقوف وقيود استنسابية ومرتجلة على التحويلات إلى الخارج؛ وثانياً، فرض السحب البطيء والمتدرج لودائع الناس بالدولار وفقاً لسعر الليرة المحدّد على المنصة الالكترونية، مع تفاوت سقوف السحب بين مصرف وآخر، هذا مع العلم أن سعر الليرة وفقا للمنصّة لا يصل إلى ٥٠ ٪ من سعر الليرة الحرّ، مما يعني منذ البداية حجماً للهيركات لا يقل عن ٥٠ ٪.
بعض المعالم على طريق الانقاذ؛ ينبغي الاعتراف بأن هذا النوع من الهيركات يعتبر أكثر رجعية بكثير مما كانت لحظته خطة حكومة حسّان دياب التي تواطأ كل "أهل السلطة" على تفشيلها، بمجرّد أن لاحت في ثناياها ملامح للتصدّي لتجاوزات المصارف التجارية ومصرف لبنان. ويجب التشديد في هذا الإطار على أن إعادة هيكلة القطاع المصرفيّ تعتبر مهمّة بالغة الأهمية، لأنه لا يمكننا بناء بلد من دون مصارف. ولكن هذه الأخيرة تحتاج إلى اصلاح بنيوي شامل يتضمن زيادة رسملتها ونفض مجالس ادارتها وتنقية موجوداتها وتصويب وجهة سياساتها الاقراضية والتمويلية. كما يجب على هذا الاصلاح أن يتضمّن التفاوض بشكل صارم مع كبار المودعين والمساهمين لاسترجاع جزء من الأرباح والفوائد الفاحشة التي كدّسوها عاما بعد عام (وبخاصة منذ الهندسات المالية الكبرى بدءا من عام 2016)، والتي حوّلوا الجزء الأكبر منها إلى الخارج. وبالتوازي مع عملية تحديد "الثقب الأسود" وبلورة آليات توزيع الخسائر، يجب البدء بتحضير الإطار المعلوماتي واللوجيستي والقانوني الخاص بمعالجة ملف استرداد المال العام والمال الخاص: الاصلاح الفعلي للقضاء وترسيخ ومأسسة استقلاليته ورفع الحصانات وإعادة النظر بالسرية المصرفية، والتمييز بين الكسب الشرعيّ القانوني وبين الكسب الأقرب إلى " اللوتو " والمحكوم بسياسات خاطئة ومدمرّة، كما عبّرت عنه – على سبيل المثال لا الحصر – الهندسات المالية التي أطلقها مصرف لبنان منذ عام 2016. ولا بأس – في هذا المضمار - من الاستفادة من تجارب تاريخية حصلت على هامش تداعيات أزمة عام 2008، حيث أجريت عمليات "مقاصّة" (أي مقايضة) بين أرباح فاحشة جنتها في غفلة من الزمن حفنة قليلة من كبار المستثمرين وبين الخسائر التي تكبّدها الملايين من صغار ومتوسطي المستثمرين. وكانت النتيجة استرداد جزء مهم من أرباح كبار الرأسماليين وإعادة توزيعها لتعويض صغار المستثمرين الذين خسروا جنى عمرهم في مضاربات كان يديرها وينظمها "كبار اللاعبين".
ماذا حققته الانتفاضة وماذا لم تحققه؟ لقد أسقطت الانتفاضة التسوية الرئاسية وحكومتين و" نصف"، ومنعت مجلس النوّاب تكراراً من تمرير العديد من مشاريع القوانين المرتجلة والملتبسة، وكشفت الكثير مما هو "مستور" في عورات الطائفية والنظام الطائفي، وتصدّت للعديد من النواب والشخصيات السياسية في الساحات والأماكن العامة، ومنعت المضي في تنفيذ مشروع سدّ بسري، وأسقطت عمليا خيار معمل الكهرباء الرابع في سلعاتا إلخ. لكن الأهمّ من ذلك، أن الانتفاضة زرعت لدى مئات الألوف بل الملايين من الشباب من أقصى البلاد إلى أقصاها، روحاً كفاحية من نوع جديد وشعوراً بالقدرة الذاتية (ولو الكامنة) على التغيير ووعياً متزايداً للكثير الكثير من الملفات الشائكة التي تفضح سياسات المنظومة الحاكمة وتؤثّر في حياة عموم اللبنانيين بصرف النظر عن "لونهم وجنسهم وطائفتهم ومناطقهم". ونحن ندرك أن نتائج تراكم هذا الوعي قد لا تظهر دفعة واحدة أو بالسرعة المطلوبة او في اللحظة المشتهاة. مع ذلك، فقد أظهرت تجارب الشعوب أن الشعلة المتأتية عن تراكم الوعي الشعبي لا تنطفئ وهي تبقى تتعتّق وتختمر في ضمير الناس منتظرةً اللحظة الثورية التي يجتمع فيها الظرف الموضوعي مع نضج الشروط الذاتية للتغيير.
إنّ تسارع انهيار المنظومة الحاكمة، سواء على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمالية والنقدية أم على الصعيد السياسي، يؤكد عجز هذه المنظومة عن اجتراح الحلول المؤدية إلى انقاذ البلد وتحقيق الانتظام العام فيه. فتشكيلات تلك المنظومة هي التي حكمت البلاد منذ اتفاق الطائف حتى الآن، وهي التي تتحمّل المسؤولية كاملة عن المآسي التي وصل إليها لبنان. وإذ يحتفل الحزب الشيوعي اللبناني بذكرى تأسيسه السادسة والتسعين، فانه يعاهد الشعب اللبناني وجمهور الانتفاضة الشعبية وكل قوى التغيير الديمقراطي على مواصلة النضال في مواجهة المنظومة الحاكمة، وعلى المضي قدماً نحو بناء أوسع ائتلاف وطني للتغيير يفضي إلى تعديل موازين القوى وإرساء أسس المشروع السياسي البديل، بدءاً من فرض حكومة انتقاليّة من خارج المنظومة الحاكمة وبصلاحيات استثنائيّة كمقدمة لقيام الدولة العلمانية الديمقراطية في لبنان.