مرةً أخرى ينتهك لبنان بمؤسساته حقوق العاملات في المنازل على وجه الخصوص، وهنّ اللواتي لم يعرهن قانون العمل الصادر عام 1946 أي اهتمام، وتجاهلهنّ بالمطلق، من خلال استثنائهن والعمال الزراعيين والعمال في المنازل من أحكامه، وهذا أمر متوقع في ظل نظام حكم الاقطاع اللبناني. واستمرّ الحال على ما هو عليه ولم تصدر أصوات كثيرة تنادي بتغيير القانون المذكور لعدّة أسباب أهمها أن نسبة العمالة في هذا المضمار ليست كبيرة. ومع تغير وظيفة النظام الاقتصادي اللبناني بعد توقف الحرب الاهلية وتحرير التجارة وتثبيت سعر صرف الدولار وتسهيل تنقل الافراد في ما بين الدول وغيرها من الخطوات الاقتصادية، تعاظم عدد العاملات في المنازل اللواتي تقدرّهن وزارة العمل بنحو 250 ألف عاملة في حين أن الرقم يزيد عن ذلك بسبب وجود كثيرات منهنّ بطريقة غير قانونية على الاراضي اللبنانية.
لهذه القضية مسار طويل مؤلف من ثلاث محطات تسير في خط واحد محصلّته التجارة والربح. فبالنسبة الى الدول التي تأتي منها العاملات هي مصدر مالي بالعملة الصعبة، مصدر داعم لاقتصاداتهم الوطنية، وتاليًا يسهّل أصحاب الشأن، في عدة طرق، تسفيرهن إلى الخارج للغاية المذكورة، ثم هناك الجهة الثانية وهي المواصلات وطرق النقل وما تجني منهنّ من أموال، وفي النهاية يأتي دور الدول المستقبلة. وفي حالتنا اللبنانية تتشكل منظومة كبيرة من المستفيدين قبل أن تصل العاملة الى المنزل الذي ستعمل به.
لهذا السبب جرى إنشاء مكاتب استقدام العاملات في المنازل وشبكة المستفيدين من وزارة العمل والامن العام مرورًا بكتّاب العدل ومعقّبي المعاملات ومكاتب التأمين الصحي فضلاً عن مكاتب تحويل الاموال. كل هذه الشبكة تستفيد من هذه العاملة التي جاءت لتسهم في مساعدة عائلتها على تخطي شظف الحياة، ومع ذلك فإنّ هذه الفئة لم تمنح الحقّ في ممارسة عملها اللائق وفقاً لقانون العمل المعمول به، فهي محرومة من أبسط حقوقها الانسانية، لأنها تبقى مستنفرةً 24/24 ساعة في خدمة العائلة، وتاليًا هي تُمنع من ممارسة حياتها كأي إنسان آخر، وبالكاد يسمح لها بممارسة الشعائر الدينية ولو مرةً واحدةً في الاسبوع! وقد تتعرضن لمضايقات عديدة من بينها التحرش، فيترك هذا الامور معطوفاً على عوامل كثيرة أخرى تداعيات نفسية خطيرة عليهنّ وتدفع بهم في كثيرٍ من الاحيان الى الانتحار.
ترى ما الذي يدفع سيدة، تركت بلادها وجاءت لتساعد عائلتها بمبلغ تُيَسر به الحال، الى الانتحار؟ سؤال واقعي جدًا، والاجابة عنه تدور في شقين رئيسين مترابطين: الاول الحالة النفسية والاجتماعية التي تعيشها تلك السيدات، والثاني تراكم المشاكل التي تترتب عن سوء العلاقة بينها وبين مكاتب الاستخدام ومستخدميها على حدّ سواء، ولا سيما إذا ما اكتشفنا أنّ الوثيقة التي تنظّم تلك العلاقة، أي ما يعرف بنظام الكفالة، هو سبب المشكلات التي تعانيها العاملات في المنازل، فهي تحول هذه النسوة الى سلعة تتداولها مكاتب الاستخدام بحسب مصالحها الربحية، فيصبحنّ بمثابة بشر يجري الاتجار بهنّ. لذا، نجد أن عدد المنتحرات من الجنسيات: الاثيوبية والفلبينية والبنغلادشية على سبيل المثال وليس الحصر، لغاية منتصف شهر تشرين الاول من العام 2020، هو 22 سيدة، بينهن 18 اثيوبية، و3 بنغلادشيات، وفليبينية واحدة. هذا الرقم يعادل ما نسبته عشرين في المئة تقريباً من نسبة المنتحرين هذا العام الذين بلغوا 106 أشخاص. وإن كان هذا لا يعفيهن من مسؤولية ارتكاب بعضهن جرائم واعتداءات بحق مستخدمينهن، وهذا ما تطالعنا به بيانات القوى الامنية بين الحين والآخر. من هنا تأتي الحاجة الى عقد عمل جديد يعيد تنظيم العلاقة بين مكاتب الاستخدام والعاملات الاجانب في المنازل بما يضمن لهن حقوقهن الانسانية، وهو ما حصل مع وزيرة العمل في حكومة تصريف الاعمال لميا يمين دويهي، وعلى الرغم من أنّ قرارها لم يلبِ طموحات جمعيات حقوق الانسان والنقابات المعنية والمؤسسات الدولية ذات الصلة، التي تسعى إلى جعل نظام العمل بين جميع العاملين الاجانب على الارض اللبنانية والدولة اللبنانية نظامًا واحدًا غير مجزأ، الاّ انه يتضمّن مجموعة من النقاط الجيدة لمصلحة العاملين والعاملات في المنازل، الأمر الذي لم يرق لمكاتب استقدام المستخدمين التي ناصرها مجلس شورى الدولة بإلغائه قرار يمين ولم يكن هناك من يدافع عن وزارتها. وممّا زاد الطين بلّة هو أنّ صراعاً خفياً يجري بين الوزارات "العائدة" الى التيار الوطني الحرّ وتلك "العائدة" الى تيار المردة -بحسب الطبخة السياسية اللبنانية- فوزارة العدل "العونية" استصدرت قرارًا قضى باعتبار وزارة العمل "المردية" خارجة الصلاحية، ولا يحق لها أن تصدر هكذا قرارات في خلال تصريف الاعمال، وفي نهاية المطاف يكون المستخدمون بشكل خاص، هم الضحية، فلم يعد اللبناني وحده ضحية صراع القوىّ، بل تمدد ليطال العاملين الأجانب فيه أيضًا.
وقبل ان نستعرض ايجابيات عقد العمل الموحد، علينا أن نعرف ما هي أبرز الانتهاكات التي تلحق بالعاملات الاجنبيات في لبنان؟
• حجز الأوراق الثبوتية للعاملة
• التحرّش الجنسي
• الأذى النفسي والضرب
• العزلة وعدم السماح بمغادرة المنزل
• ساعات العمل الطويلة من دون احتساب بدل عمل إضافي
• حجم العمل المطلوب وتنوّعه
• غياب العلاج الطبي المناسب عند الحاجة
• عدم توفّر الطعام الكافي أو المناسب
• معاملة مكاتب الاستقدام التي تلامس الاتجار بالبشر
• اختلاف اللغة وعدم المعرفة بالقانون المحلّي وعدم القدرة للوصول إلى التقاضي في المحاكم
في مقابل تلك الانتهاكات يتوقّع أكثرية أصحاب العمل جملة مهام من العاملة المنزلية تلامس أحيانًا حدّ العبودية وتتضمّن ما يلي:
• تنظيف المنزل بشكلٍ عام
• غسل الملابس وكيّها
• الطبخ وغسل الصحون
• العناية بالأطفال والمسنين
• غسل السيارات
• العمل لدى أقارب الأسرة أحياناً كثيرة
• مرافقة السيدة للتبضّع وحمل الأكياس
• الاستفاقة أثناء الليل للعناية بطفل مريض أو عجوز
من هنا يشكّل إقرار عقد العمل الموحد كإطار قانوني، حدًا أدنى مقبولاً لحماية العاملات في الخدمة المنزلية في ظل استمرار استثنائهن من قانون العمل. فما كانت السمات الايجابية لهذا العقد الملغى؟
• أن يتم الدفع للعاملة في نهاية كل شهر عمل كامل الأجر الشهري، ومن دون أي تأخير على ألاّ يقلّ عن الحد الأدنى الرسمي للأجور
• تأمين غرفة خاصة منفصلة ومجهزة بقفل ويبقى القفل مع العاملة
• يحقّ للعاملة ممارسة الشعائر الدينية والعادات الثقافية
• تأمين الرعاية الصحية اللازمة والعناية بالأسنان عند الضرورة
• عدم إلزام العاملة بالقيام بأعمال قد تعرّض صحتها أو سلامتها للخطر
• يلتزم ربّ العمل بالاستحصال على الوثائق القانونية من دون تكليف العاملة أي تكاليف
• تحتفظ العاملة بالوثائق، بما في ذلك جواز السفر أو الهوية وإجازة العمل وجواز الإقامة وبطاقة التأمين
• يحقّ للعاملة إجراء اتصالات وامتلاك الهاتف المحمول
• تحدّد ساعات العمل الأسبوعية بـ48 ساعة كحد أقصى، أي بمعدل 8 ساعات يومياً
• تستفيد العاملة من الإجازة السنوية مدفوعة الأجر لمدة 15 يوماً بعد مرور عام على بدء العمل
• يجوز لأي طرف فسخ العقد بشكل أحادي، على أن يُعلم الفريق الآخر قبل شهر على الأقل
هذا وقد صدرت عدة مواقف استنكرت بشدة قرار مجلس شورى الدولة، ورأت فيه محاولة خبيثة لضرب مكتسبات العمال بشكل عام والعاملات بالمنازل بشكل خاص.
إنّ المطلوب هو ثورة تشريعية حقيقية تلغي الاستثناء عن هذه الفئة من العاملين، وتضمّهم الى قانون العمل والتعاطي معهم بشكل انساني طبيعي، وليس كأشخاص يجري الاتجار بهم. وفي المرحلة المقبلة ونظرًا لارتفاع سعر صرف الدولار، فإنّ اللواتي عاملات المنازل ستحجم عن المجيء الى لبنان، وسوف يحتاج سوق العمل لهنّ، وبالتالي فإنّ تنظيم هذه العمالة بشكل لائق، بحيث يجري منحهم حقوق تغاضي عنها نظام الكفالة، كالضمان الصحي الحقيقي وليس الوهمي كما هو حاصل اليوم مع هذه الفئة، وزيادة الرواتب بما يتلاءم وحجم العمل المبذول، وتحديد وقت لهذا العمل، ومنح العاملين حق الاستفادة من العطل الاسبوعية وكذا الرسمية، سيساعد على دخول لبنانيين ولبنانيات الى هذا العمل لينخفض عدد الاجانب العاملين به، وتنخفض معه فاتورة الدولار الذي يخرج سنويًا من خزينة لبنان، هذا عدا عن كونه يلغي التمييز بين العمال كائنًا ما كانت طبيعة عملهم وكائنًا ما كانت جنسياتهم.
غير إن "لوبي" المصالح والزبائنية الذي يستفيد من هذه الصيغة الملتوية القائمة للعاملات والعاملين، فإنه لا يستحي في زيادة أرباحه مهما كانت الوسائل التي يستخدمها، وهو، سيبقى محافظًا على نظام الكفالة المعمول به. فهل ينتصر القانونيون والمؤسسات المعنية لهذه الفئة من السيدات اللواتي يجري هضم حقوقهنّ بلا أي وازع تشريعي واخلاقي يضع حدًا لجشع ذلك " اللوبي "؟