إلّا أن المشكلة لا تقف عند حدود معركة الحريّات، ولا في أن الإدّعاء أتى من قِبَل برّي - الّذي صرّح مراراً أن "الضعيف يلجأ للقضاء" (في العام 2017 تحديداً)، ولا في أنّ الدعوة مرفوعة دفاعاً عن حثالة وُثِّقَت لهم في غير مرّة عمليّات قتل متعمَّد ضدّ مدنيّين. بل أكثر من ذلك، حتّى في لجوئه للقضاء، يخالف برّي القانون بتوكيل الدعوى لمحاميه علي رحّال. إذ أنّ رحّال أستاذ في مَلاك الجامعة اللبنانية – يعني، لا يَسمح له قانون التفرّغ في الجامعة اللبنانيّة ممارسة مهنة المحاماة.
وعليه، يقول المنطق القضائيّ، إمّا أن يترك رحّال ملاك الجامعة ليستلم الدعوى، إمّا أن يبقى في الملاك ويعتذر من الرئيس برّي – حرصاً على تطبيق القانون طبعاً.
أكثر من ذلك، لتنشيط الذاكرة، منذ عامٍ ونيّف خلال إضراب الجامعة اللبنانية، والّذي استمرّ 50 يوماً، كان يشغل علي رحّال منصب رئيس مجلس المندوبين في رابطة الأساتذة المتفرّغين، وكان هو من عرقل استمرار الإضراب عندما رفض عقد اجتماع مجلس المندوبين في موعده لنقض قرار الهيئة التنفيذية غير الشرعي بفكّ الإضراب. أجّل الاجتماع، واضطرّت الجامعات بالسير بقرارٍ غير شرعي، بتجاوزٍ واضح للنظام الداخلي للرابطة وللهيئة العامة ولإرادة الطلّاب والأساتذة المُضرِبين.
يتحمّل علي رحّال إذاً، مسؤولية تاريخية في إجهاض حركة نقابية مستقلّة داخل الجامعة اللبنانية، وها هو اليوم يخالف قانون التفرّغ في الجامعة للدفاع عن مُجرمين، باسم "اللجوء إلى القضاء".
لكن إمارة نبيه برّي الأخطبوطيّة داخل الجامعة اللبنانية، والمضادّة للحريّات، لا تنتهي هنا.
فهو يملك وكلاء غير رحّال، برتبةٍ أعلى، تحديداً: رتبة رئيس الجامعة اللبنانية، البروفسور فؤاد أيّوب. فهذا الأخير أصدر بتاريخ 7 أيلول 2020، تعميماً رقمه 34، يتضمّن تعهّداً يُلزم الطلّاب بعدم التعبير عن رأيهم فيما يخصّ الجامعة ومسؤوليها وأساتذتها على شبكات التواصل الاجتماعي.
منذ صدور التعميم حتّى اليوم، حاول أيّوب في غير موضع، عبر مقابلاتٍ صحافيّة، أن يبرّر التعميم تحت مسمَّياتٍ فضفاضة جدّاً، متّهماً الرأي العام أنّه أوَّلَ البندَين الثاني والثالث بما لم يقصده هو. علماً أن رئيس الجامعة تراجع جزئياً عن الموضوع بموجب توضيح صدر في 11 أيلول، لكن عمليّاً ما زال العمل وفق التعهّد جاري. للمفارقة، تعميم فؤاد أيّوب داخل الجامعة، بجَوهره، يتطابق مع الدعوى الموكلة إلى علي رحّال خارج الجامعة. هو سياق واحد في سبيل القمع وكمّ الأفواه والترهيب المعنوي، حتى لا يبقى من يعترض.
ولمَ الإعتراض في الجامعة اللبنانية؟ قد يسأل أحدهم. في الواقع، التعهّد الذي يطالب به أيوب هو خطوة إستباقية. جرت العادة مثلاً، في التعاطي مع المخافر وعند تحطيم واجهات المصارف، أن يُطلَب الإمضاء على التعهّد بعد الحادثة – لا قبلها (وحتّى في هذه الحالة لم يكن أحداً ليمضِ). لماذا إذاً، وبمخالفة لأبسط القواعد القانونية، يُطلَب من الطلّاب إمضاء تعهّدٍ على شيءٍ لم يقترفوه بعد؟ هي حماية ذاتية يقوم بها أيّوب، لأنّه يدرك أن الاعتراض مقبل لا محالة، لأن الجامعة اللبنانية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من انهيارها النهائي. لماذا؟ بسبب فشله الإداري، هو ومن يقف ورائه، بل بالأحرى: بسبب نجاحه في الإشراف على القتل الرحيم، والممنهج، لهذه المؤسّسة.
كل ذلك، ناهيكَ عن ثغراتٍ لا تُحصى في هذا التعهّد، عُرضتَ في غير موضع، ولا داعي لتفصيلها مجدّداً هنا. لكن بشكلٍ مختصر، يأتي هذا التعميم –كونه رُبطَ بعمليّة التسجيل – بمثابة إذلالٍ للطلّاب، وكأنّ بالإدارة تقول: لا يمكن لإحد أن يتابع تحصيله العلمي إلّا مسلوب الرأي. كما يأتي بمثابة ترويض: تعَوّدوا يا طلّاب، منذ اليوم، على النهج البوليسي الذي ستلقَونه في المجتمع. تعلّموا أن تسكتوا، لا نريدكم أن تقترفوا ما اقترفه أسلافكم وتقومون بانتفاضاتٍ واحتجاجاتٍ أو ما شابه.
هكذا، بشخطة قلم، يشرف فؤاد أيوب، ومن خلفه الامبراطوريّة الأخطبوطية، على تحويل الجامعة اللبنانية من حيّزٍ مشترك للتدريب على الممارسة الديمقراطية والمنطق النقدي والدور الفاعل في الشأن العام، إلى مساحة ترويض في يد السلطة، تسلب من الطلّاب أعزّ ما يملكوه، تذلّهم، وتشترط عليهم متابعة علمهم مقابل صوتهم الحر. العار كل العار لمن يرتكب هذه الجريمة بحق جامعتنا الوطنية اللبنانية. وبالضدّ تماماً، المجد كل المجد للطلّاب الّذين قالوا لا، فور صدور التعميم وما قبل حتّى، والّذين ما برحوا يُعاركون السلطة في ميدان الجامعة الوطنية اللبنانية، والّذين لن يكلّوا، ولن يملّوا، إلّا بعد استرجاع هذا الصرح الوطني وتحريره من أعداء الشباب والحياة.