تهمة اللاسامية.. إزاحة تاريخية

من المهم جداً في سياق المذبحة الممتدة اليوم في الضفة والقطاع، الوقوف عند التحول الكبير في توجهات الرأي العام العالمي من المشروع الصهيوني ومن صورة "إسرائيل" في المخيلة الغربية خاصة، على الرغم من آلة التضليل التي انتهجتها الحكومات الغربية عبر منصات إعلامية عالمية ووكالات أنباء دولية وجماعات ضغط عملاقة للتغطية على جرائم دولة الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني المقاوم.

إن فشل الآلة الإعلامية من تحقيق هدفها في منع التعاطف الشعبي مع معاناة الفلسطينيين وإدانة إسرائيل وتحميلها مسؤولية المذبحة الحاصلة اليوم في غزة، أدى إلى مواجهة على مستوى الرأي العام الغربي طالت رؤساء الجامعات وأساتذتها والنشطاء الفاعلين من طلابها وذلك من خلال استدعائهم للتحقيق معهم وترهيبهم باتخاذ إجراءات عقابية بحقهم في حال المضي قدما في الإعلان عن آرائهم ومواقفهم من إدانة إسرائيل وتعاطفهم مع الفلسطينيين وذلك عبر لجان أُنشئت للحد من إدانة إسرائيل المتنامية في الأوساط الأكاديمية وإجبار إدارة الجامعات على اتباع آليات عمل رقابية مشددة تتضمن محاذير لفظية ولغوية، على كل الذين يتناولون تاريخ اليهود، والصهيونية، واسرائيل، والاسرائيلين بشكل نقدي ومعاقبة كل من لا يمتثل لهذه المحاذير بالتشهير والاتهام بمعاداة السامية، ضمن سياسة واضحة يراد منها تكميم الأفواه المطالبة بوضع حد لالة القتل الإسرائيلية وبإدانتها ومعاقبتها لارتكابها جرائم إبادة جماعية.
وبالرغم من معرفة الثعالب الأوروبية أن ظاهرة العداء للسامية قد انتهت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا أنها تسعى وبشكل حثيث لاستحضارها من جديد من خلال ربطه بعناوين أشد خطورة هذه المرة، وهي العداء للصهيونية ولإسرائيل والإسرائيليين، في سعي واضح لحرف المواضيع عن سياقاتها وتحويل موضوع التضامن مع القضية الفلسطينية التي أعادته تضحيات الشعب الفلسطيني وبسالة مقاومته إلى مركز النقاش الدولي، إلى موضوع متعلق بمعاداة الصهيونية باعتبارها معاداة للسامية بهدف التغطية على المحرقة الممتدة بحق أهلنا في غزة.
كل ذلك يجري في إطار حملة ممنهجة لتعقيد اللغة وجعل المتعاطف مع الضحية والذي يدين "إسرائيل" بارتكابها جرائم حرب هو نفسه مدان بالعداء للسامية، ما يجعله في موقع دفاعي يسعى من خلاله لتبرير لغته والتراجع عن مواقفه، لتبقى "إسرائيل" محتكرة لموقع الضحية في الوقت الذي تمارس فيه أبشع أنواع القتل الجماعي وعمليات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين.
هذه الحملة تذكرنا إلى حد بعيد بالحملة "المكارثية" التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف القرن العشرين التي عملت على نشر الخوف في جميع أنحاء البلاد عبر استباحة خصوصيات الناس بحجة التصدي "للخطر الأحمر الداهم" حينها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي خطوة استباقية على المستوى الاستراتيجي لمنع تحول هذا التضامن والتعاطف المتنامي مع الشعب الفلسطيني في أوساط الأكاديميين والجامعيين إلى أدوات مؤثرة داخل المؤسسات الأمريكية والأوروبية في المستقبل.
إن استحضار معزوفة العداء للسامية من قبل المستعمرين الاوروبيين ما هي إلا محاولة فاضحة الى حد الوقاحة من تلك الحكومات لفصل الوعي القاعدي للشعوب الأوروبية عن حقيقة ما يرونه من مجازر يومية ترتكب بحق النساء والأطفال والخدج من الفلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي.
علماً أن تلك الحكومات تدرك تماماً أن العداء لليهود بصفتهم يهوداً وإطلاق تسمية السامية عليهم، بدأ من قلب أوروبا في القرون الوسطى، كما ظاهرة العداء للسامية، التي بدأت لاحقاً تأخذ منحى منظماً مع بداية ظهور أول تنظيم ألماني معاد للسامية تحت مسمى "عصبة اللاساميين" عام 1879.
فالأوروبيون هم من أوائل المعادين لليهود بوصفهم يهوداً من منطلقات متعددة، دينية متعلقة بالكنيسة، عرقية متعلقة بالحالة اليهودية وما تمثل من نقيض للنظرية العرقية باعتبار اليهود لا ينتمون إلى عرق محدد، ويسارية في إطار الصراع الطبقي ونضال الطبقة العاملة من أجل التحرر من سطوة رأس المال المالي والمقرضين والمحتكرين والذين غالباً ما كانوا من اليهود كونهم تاجروا بين الثقافات والحضارات ولم ينتموا إلى قوميات بعينها في وضع يتشابك فيه الصراع الطبقي مع الاجتماعي والقومي.
وعليه فمعاداة السامية هي ظاهرة أوروبية بامتياز، وما إصرار دول المستعمر الأوروبي على إلصاق التهمة بالعرب والفلسطينيين الا لإزاحة التهمة عن أنفسهم.
كما هو الحال بالنسبة للحركة الصهيونية ومعاداتها، وذلك قبل أن تصل الحركة الصهيونية إلى فلسطين كحركة استعمارية استيطانية إحلالية.
فالصهيونية أيضاً نشأت في أوروبا متأثرة بالحركات القومية الأوروبية ومقلدة لها، واليهود هم أول من أطلقوا على أنفسهم مصطلح "العداء للصهيونية" ومن خلفيات متعددة أبرزها:
من الجانب الديني، يعتبر اليهود المتدينون أن الصهيونية قد حولت اليهود من شعب الله المختار إلى قومية علمانية وهذا غير مقبول من قبل اليهود إطلاقاً، كما فكرة إقامة الدولة الخاصة باليهود، فالدولة لدى اليهود المتدينين تقام فقط عند عودة المسيح، وإلى حينه يجب أن يبقوا في الشتات.
من الجانب اليساري: يعتبر اليهود اليساريون الأوروبيون أن الحركة الصهيونية هي حركة برجوازية تعمل على تقسيم الطبقة العاملة وهذا يشكل عائقا امام نضال الطبفة، ويجب معاداتها.
من الجانب الليبيرالي: تعتبر شريحة كبيرة من اليهود الأوروبيين الليبراليين الذين رأوا في الصهيونية معرقلاً أساسياً لمفهوم المواطنة في الدولة العلمانية وعائقاً أمام الاندماج بين الشعوب.
أما الفلسطينيون فعداءهم للصهيونية يرتكز بوصفها حركة استعمارية استيطانية احلالية وليس عداءً لليهود.
إن استحضار موضوع العداء للسامية من جديد في الأوساط الأوروبية من خلال دمجه بشكل محكم بالعداء للصهيونية في إطار وحدة متكاملة، يكشف لنا مدى استمرار الارتباط الوثيق بين المشروع الصهيوني والقوى الاستعمارية الأوروبية، والالتزام "الأخلاقي" والمعنوي والاقتصادي والعسكري الكبير الذي رأينا ذروته بالأمس القريب من خلال تظافر الجهود العسكرية الدولية لصد الرد الإيراني على الاعتداء الصهيوني السافر الذي جرى على قنصليتها في دمشق، ما هو إلا دليل على وحدة المسار والمصير بين المستعمر القديم من جهة والمستعمر الجديد المتجسد بالحركة الصهيونية الاستيطانية الجاثمة على أرضنا.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 422
`


نشأت زبداوي