شابة تجاوزت التسعين

من الصعب جداً الكتابة عن ليندا مطر بصيغة الغائب، هي التي ملأت عقوداً من الزمن بحضورها البهيّ وعزيمتها الفولاذية ونضالها الدؤوب لا لأجل المرأة فحسب، بل لأجل الإنسان أينما كان، ولكن بشكل خاص لأجل إنسان هذه البقعة من الكوكب حيث يولد المرء وارثاً أعباءً وتراكماتٍ من الظلم والعسف والجور الذي يصيب مواطنين لا ينالون من حقوق المواطنة سوى صفتها، فيما تقع على كواهلهم كل واجباتها.

ولئن كانت ضغوط الحياة في هذي البلاد تصيب الجميع بلا استثناء، إلّا أنها تلقي بثقلها على النساء بشكل مضاعف مرات ومرات. فمن وطأة السلطة على أنواعها(سياسية ودينية واجتماعية)، إلى التسلط الذكوري المعلن أو المتواري خلف ذرائع شتى. هذا الواقع أدركته ليندا مطر منذ يفاعتها ونعومة أحلامها، اكتشفته بفطرة الإنسان السويّ الباحث تلقائياً عن العدالة والمساواة، وحصّنته بالوعي والمعرفة، وعمَّدته بالنضال اليومي بلا كلل ولا ملل. فكان من البديهي أن ترتقي في سلّم الحياة والمواقع سواء في لجنة حقوق المرأة وكلِّ ما تفرّع منها، أو في مختلف الهيئات والجمعيات النسائية ما جعلها أيقونة العمل النسوي الصادق الحقيقي بعيداً من أجندات المنظمات وبرامج العمل الممولة من الخارج التي تخفي خلف ستائرها ما تخفيه.
أدركت ليندا مطر أن تحرر المرأة ليس معركة بينها وبين الرجل، بل معركتهما معاً ضد نظام رجعيّ طائفي يستخدم الذكورية مثلما يستخدم الطائفية والمذهبية وسواها من أقنعة لممارسة سلطته وترسيخ نفوذه وضمان استمراريته، لذا رأيناها تربط تحرر المرأة بتحرر المجتمع برمّته، ولا تعتبر العمل النسوي منفصلاً عن النضال التحرري بمختلف أشكاله وفي مقدمه مقاومة الاحتلال الاسرائيلي. فلم تفقد البوصلة يوماً، ولم يشغلها النضال النسوي أو الطبقي عن النضال ضد المحتل وأدواته، أو مهادنته تحت حجج وذرائع شتى.
تدرّجت ليندا مطر في العمر والنضال، من فتاة حالمة إلى سنديانة عتيقة صلبة، وفي كل مراحل حياتها ونضالها(داخل الحزب الشيوعي اللبناني أو خارجه بعد استقالتها منه) ظلت إنسانة صادقة واضحة شفافة بلا رتوش ولا أقنعة، هادئة متواضعة، لكنها صلبة الإرادة، قوية الشكيمة، آسرة الحضور. تذكّرنا دائماً بالمناضلين الأوائل الذين تمتزج في شخصياتهم الصلابة بالعذوبة، والواقعية بالرومانسية الحالمة. اشتعل رأسها شيباً وظل حلمها أخضرَ يانعاً، لم تهدأ ولم تستكن، بقيت شابة تجاوزت التسعين وقاربت المئة من عمر نذرته للقضايا التي آمنت بها وصارت أيقونة لها.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 412
`


زاهي وهبي