طريقُنا شوكٌ ووعرٌ عسيرُ

إن كانت المئوية مناسبةً للاحتفال بكلّ ذلك التاريخ النابض، بشهدائه وجرحاه ومناضليه وأسراه ومعتقليه، وبمفكريه وعماله ومزارعيه ومقاتليه، فإنّها أيضاً مناسبة للقلق والتفكّر واستشراف المستقبل في ظلّ كل المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية والداخلية الحزبيّة. هي مناسبةّ لبدء الخطوات الأولى في التخطيط لخوض غمار طريق النضال الذي سيكون أكثر شوكاً ووعراً وعسراً.

كتب الشاعر الوطني البحريني أحمد الشعلان قصيدةً سرعان ما أصبحت نشيداً وطنياً بعد أن لحنها الموسيقار والمناضل الراحل عبد المجيد مرهون، وقال في مطلعها:
"طريقنا، أنت تدري     شوكٌ ووعرٌ عسيرُ
موتٌ على جانبيه       لكنّنا سنسير"
يكثّف هذا البيت الشعريّ حال اليسار والشيوعيين بعد مائة عامٍ على تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، في ظلّ حرب إبادة جماعية يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة، والعدوان الوحشي الواسع على الضفة الغربية ولبنان، والاعتداءات المستمرّة ضد عدد من دول المنطقة. هذا هو الحال فيما يصطفّ قادة العالم في الولايات المتحدة وأوروبا ودول الأطلسي والدول العربية داعمين ومشاركين في الجريمة بأشكال مختلفة: تذخيراً وتسليحاً وتمويلاً ومعلوماتياً وتغطيةً إعلامية وسياسية وتطبيعاً وفي الحد الأدنى صمتاً وانتظاراً على ضفة النهر حتى تطفو جثثنا.
كلّ المسارات والخيارات صعبة والموت يملأ جانبيها، لكنّ الخيار الذي أخذه الشيوعيون ثابت ولا يتزعزع وسيسيرون عليه، في حركة التحرر الوطني وفي المقاومة من أجل تحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال، وفي الدفاع عن لبنان وشعبه وأرضه، وفي النضال من أجل التغيير والتقدّم، كما أعلن حزبهم في شعار مئويته: للوطن، للتحرر، للاشتراكيّة.
لقد شهدت المائة عام الأولى من عمر الحزب تحديات هائلة ومحطات وتغيّرات كبيرة منذ تأسيسه في لبنان وسوريا بين عمال التبغ والمثقّفين في العام 1924 وصولاً إلى معارك الاستقلال حتى العام 1943، مروراً بالنضال ضد الفاشية، وتحوّل الحزب إلى حزب جماهيري، ومن ثمّ دخوله معترك العمل السري في ظلّ القمع والملاحقات من الأنظمة الرجعية والتقدميّة على حدّ سواء في خمسينيات القرن الماضي عندما استشهد أمينه العام فرج الله الحلو تحت التعذيب في أقبية استخبارات نظم الاستبداد. ولم تكن تحديات العقود التي تلت أقّل شراسةً، فإلى جانب خوضه النضال العمالي والنقابي وتأسيس النقابات الجماهيرية في الستينات، وخوضه الانتخابات النيابية بمواجهة أحزاب السلطة، استجدّت على الحزب مهمات وطنيّة في قرى الجنوبي المشرّع أمام الاعتداءات الصهيونية في ظلّ غياب الدولة وجيشها عن القيام بهذه المهمات. فأسس الحزب الحرس الشعبي وقوات الأنصار مع أحزاب شيوعية عربية، وشهد في هذه المرحلة، وخاصةً بعد هزيمة الجيوش العربية في العام 1967، نهضةً جماهيرية استثنائية وصولاً حتى منتصف السبعينيات مع دخول آلاف الشباب والشابات من العمال والمزارعين والطلاب إلى صفوفه وتحوّله إلى كتلة سياسية وازنة وتحالفه مع الحركة الوطنية والشهيد كمال جنبلاط، ومع الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفاعلة في لبنان في حينه. ومع تحوّل الحزب إلى قوّة أساسية، أتى دوره الفعال في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان وبيروت في العام 1982، عندما أطلق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي حرّرت بيروت ومعظم الأراضي اللبنانية في عمليات نوعية شارك فيها آلاف الشيوعيين والوطنيين. لكنّ الحرب الأهلية انتهت على اتفاق أعاد تجديد وتكريس المحاصصة المذهبية في لبنان بعد أن استطاعت هذه القوى أن تحكم سيطرتها في الداخل بفعل الدعم الإقليمي لها ومارست الاقصاء والاغتيال ضد الشيوعيين الذين رفضوا أن يكونوا ملحقين أو تابعين. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وتسليم لبنان عبر التفاهمات الأميركية – السورية – السعودية إلى تحالف داخلي يشكّل امتداداً لهذه التفاهمات، استكملت عملية تهميش وإقصاء الحزب الشيوعي اللبناني في التسعينيات. لكنّ الحزب، ورغم الانكسارات والتراجعات والدخول في دوامة الصراعات الفكرية والسياسية والتنظيمية الداخلية، استطاع أن يحافظ على وجوده السياسي، قبل أن يستكمل مساره النضالي من صفوف الاعتراض الوطني. ومع خفوت هالة مشروع الطائف وإعادة الإعمار ودخول النظام في الأزمة تلو الأخرى، تمكّن الحزب من الحفاظ على تمايزه في ذروة انفجار صراع تحالفي 8 و14 آذار في العام 2005، ليدخل بعدها. دفع الحزب مجدداً الأثمان باغتيال أمينه العام الأسبق الشهيد جورج حاوي، الذي لعب دوراً قيادياً استثنائياً في الحزب لعقود.
تابع الحزب نضاله وعزّز حضوره السياسي وبرزت منظماته الجماهيرية وفي طليعتها الشباب والطلاب والمعلّمين التي قادت الحراك الشعبي من خلال تحركات إسقاط النظام الطائفي في العام 2011 وهيئة التنسيق النقابي في العام 2013 والحراك الشعبي البيئي في العام 2015 وصولاً إلى انتفاضة 17 تشرين المجيدة في العام 2019، ليكون في موقعه الطبيعي في الصراع مع المنظومة الحاكمة بمختلف قواها من أجل التغيير والتقدّم وبناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطية.
أمّا بعد، فالعبرة في المستقبل: في استكمال الطريق والتطلّع إلى ولوج المئوية الثانية، وهنا لبّ التحدّي. فمن لديه هذا الإرث النضالي العتيق، وجب عليه أن يكون على قدر التطلعات في مشروع بناء المستقبل. ولا شكّ أن القادم من الأيّام والسنين سيكون شديد الصعوبة كما كان الماضي الذي خاضه الحزب وربما أصعب. فالحزب اليوم يبدأ مئويته الثانية من دون وجود حاضنة دولية أو إقليمية تشكّل عمقاً استراتيجياً له سواء على المستوى الفكري والسياسي أو على المستوى العملي. وبالتالي، عليه أن يضع مشروعه وبرنامجه على قاعدة الاستناد إلى إمكاناته المتاحة وحدها، من ضمن انتمائه إلى يسار عربي يعاني المشكلات ذاتها أو الأصعب منها، وإلى حركة شيوعية أمميّة تواجه أيضاً تحديات لا تقلّ صعوبةً عن تلك التي يواجهها حزبنا.
أما الظروف المادية التي سيبني عليها الحزب مشروعه المستقبلي، فهي أسيرة وقوعه في منطقةٍ تشكّل إحدى النقاط الساخنة التي تريد القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الأطلسي أن تبقيها خاضعةً لسيطرتها وتابعةً لمنظومتها، بمختلف دولها. كما أنّها منطقةٌ زُرع فيها كيان الاحتلال رغماً عن أهلها وشعبها وحقّهم في تقرير مصيرهم فصار عاملاً محدداً في أزمة المنطقة، سواء لناحية حروبه العدوانية المستمرة على دولنا ومنها لبنان أو لناحية أطماعه التوسعيّة وطموحه أن يتحوّل إلى قوّة امبريالية إقليمية عبر التطبيع وفتح الأسواق العربية خاصة في قطاع التكنولوجيا الذي يتفوّق فيه على مختلف دول المنطقة، أو لناحية أزمة اللجوء التي تسبّب بها منذ العام 1948، من خلال التهجير القسريّ للشعب الفلسطيني إلى دول الجوار وانسداد أفق حلّ أزمتهم عبر حق العودة، وبالتالي تداخل قضايا كل هذه البلدان ومحوريّة القضية الفلسطينية فيها.
وعلى المستوى الداخلي، يدخل النظام الطائفي، نظام البورجوازية اللبنانية، في أزمة تلو الأخرى، وآخرها أزمة الحكم منذ تعطّل آليات اتفاق الطائف بعد العام 2005، وأزمته الاقتصادية الخانقة بعد الانهيار الشامل في العام 2019. لكنّ النظام، من خلال تركيبته هذه، تمكّن من العبور من كلّ هذه الأزمات دون أن يسقط بالضربة القاضية. ومع كل أزمةٍ، خرج النظام أكثر تشوّهاً وأكثر تأزماً وأكثر عجزاً، لكنّه بقي حياً على حساب حياة ورفاه وحقوق اللبنانيين.
اما على المستوى الحزبي الداخلي، فشهد حزبنا خلال العقود الأخيرة، لظروف موضوعية وذاتية عديدة، انحساراً في قاعدته الاجتماعية وفي بنيته التنظيمية، وصار أكثر هرماً حيث يعاني من انحسار أعداد الشباب والشابات، والنساء عموماً، في صفوفه، وهذا ناقوس خطر للمستقبل. وعلى الرغم من اندفاع الشباب اللبناني عموماً في خوض النضالات الوطنية والطبقية والمطلبية، وآخرها في 17 تشرين 2019، وفعالية الحزب بينهم خلال هذه الاستحقاقات، لم ينعكس ذلك في بنيته التنظيمية وفي اجتذاب شرائح اجتماعية جديدة إليه. كذلك، يضعف الحزب على المستوى النقابي، وتكاد تفرغ نقاباته من العمال، وتحديداً الشباب. ولعلّ مسألة التجديد سوف تشكّل نقطةً مصيرية في السنوات المقبلة من عمر الحزب، وكيفية تعويض جيل المناضلين القدامى وجيل المقاومين الذين حرروا الأرض وجيل النقابيين الذين انتزعوا الحقوق وجيل المثقفين الذين أنتجوا وأبدعوا، بأجيال جديدة قادرة ان تكون على القدر نفسه من الكفاحية والإنتاجية والعطاء.
عليه، وإن كانت المئوية مناسبةً للاحتفال بكلّ ذلك التاريخ النابض، بشهدائه وجرحاه ومناضليه وأسراه ومعتقليه، وبمفكريه وعماله ومزارعيه ومقاتليه، فإنّها أيضاً مناسبة للقلق والتفكّر واستشراف المستقبل في ظلّ كل المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية والداخلية الحزبيّة. هي مناسبةّ لبدء الخطوات الأولى في التخطيط لخوض غمار طريق النضال الذي سيكون أكثر شوكاً ووعراً وعسراً.
فالمهمات كبيرة، من المقاومة ومواجهة المشروع الصهيوني في لبنان وعلى امتداد منطقتنا، إلى النضال الأممي في مواجهة الرأسمالية المعولمة المتجهة إلى المزيد من التوحّش ومن العدوانية، إلى النضال في مواجهة نظامنا الطائفي وقواه الحاكمة. والأحلام كبيرةٌ أيضاً، من التحرير والتغيير إلى العدالة والتقدم والاشتراكية. لكنّ الأساس يبقى في بناء التنظيم السياسي القادر على حمل كل هذه المهمات والأحلام، وانخراط الشباب والنساء والعمال في صفوفه، وإنتاج الأطر القيادية القادرة على بناء هذا التنظيم. ولعلّ هذا هو الاستحقاق الأصعب في الأيام المقبلة من حياة الحزب.

 

  • العدد رقم: 426
`


عمر الديب