مسودّات شيوعيّة؛ قرن الإذلال العربيّ والحلم اللبناني

في هذه اللحظة فإنّ متنَ كل قول والمبتدأ هو التأكيد على الأولوية الحاسمة للتصدي للغزو الاسرائيلي والاضطرابات الطائفية ودعم الجهود الشعبيّة لاحتضان النازحين وللوقف الفوريّ للحرب بما يصون السيادة الكاملة للبنان على كامل أراضيه.

مئوية الحزب الشيوعي اللبناني تصادف أيضاً مئوية إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية بوصفه، رمزياً أكثر من أي شيء، الحدث الذي طوى صفحة السلطنة العثمانية كإطار سياسي حاضن لمجتمعات امتدت من شرق المتوسط إلى البلقان. بعد أكثر من قرن على انهيار السلطنة تبدو الدول الوطنيّة التي خرجت منها متفاوتة الأحوال، وتبدو الدول العربية منها الأقلّ حظاً من الاستقرار والتنمية. بل ليس ضرباً من المبالغة الحديث عن "قرن إذلال" شهدته أجزاء- وتالياً دول- المشرق العربي من ديار السلطنة. ولم يساعد تلك المناطق، مثل لبنان، أنها كانت على مر آلاف من الأعوام أطرافاً لا مراكز للإمبراطوريات التي تعاقبت على السيطرة عليها.
قرن الإذلال كان صنيعة عوامل داخلية وخارجية. (ربما) بدأ مع فشل مشروع دولة توحد الأجزاء العربية السلطانية، واستمر مع إخفاق مشاريع القومية العربية والإسلام السياسي وإفرازاتها. وقد تضمّن حروباً أهلية وخارجية واحتلال أراضٍ وفشل نماذج التنمية وسيطرة امبريالية وترسبات كولونياليّة، على رأسها التطبيق المادي للمشروع الصهيوني في فلسطين الانتدابية، وغير ذلك الكثير.
المهم أننا ننظر إلى مشرق عربي يبدو اليوم كما منذ نحو قرن؛ ركام سلطنة منهارة (تقدّر برامج الأمم المتحدة أن مؤشرات التنمية في غزة عادت إلى مستوى سنة 1955. كذلك أنظر\ي: لبنان، سوريا، العراق...). وتبدو المنطقة محذوفة القيمة إذ يُقتل أبناؤها بمئات الآلاف ويُهجّرون بالملايين ولا تؤثر الحروب فيها على الاقتصاد العالمي! (سعر برميل النفط اليوم هو أرخص بـ 10 دولارات منه في 6 أكتوبر 2023! وذلك بعد عام كامل على حرب في منطقة لا يكف الجميع عن التدليل على أهميتها انطلاقاً من نفطها وموقعها وهمزة وصلها!)
وما يعنينا أكثر أن قرن الإذلال هذا شمل لبنان. وأنّ الشيوعيين اللبنانيين يتحمّلون، خلال المئة عام المنقضية، قسطَهم من المسؤولية لمجرّد الإخفاق في إخراج مجتمعهم من قرن الإذلال هذا، رغم إسهاماتهم المضيئة في الصراع الطبقي والتحرر الوطني. والأهم مما سبق، أنه تقع عليهم مهمة مزدوجة هي تدمير علاقات إعادة إنتاج قرن الإذلال الممتد وبناء "الحلم اللبنانيّ" في المئة عام القادمة بوصفه إجابتهم التاريخيّة الحاسمة بإرساء علاقات جديدة لإنتاج التنمية والعدالة الاجتماعيّة والقيم التقدّمية.
بيدَ أن أهلية الحزب الشيوعي للاضطلاع بهذه المهمة لا تكون بـ"الفطرة". إنها تنوجد وتتعزز بقدر اشتغال الحزب بإنتاج النظرية السياسية والأيديولوجيا والتنظيم والانفتاح بالنقد على ما تقادم وما استجد.
ويمكن البدء مثلا بترسيم معالم أطروحة التحرير والتغيير. من ناحية، وعلى سبيل المثال، اتهم بيل وورن البلاشفة بارتكاب الخطيئة التاريخية في خلطهم\مزاوجتهم بين الصراع الطبقي والصراع المناهض للامبريالية. والقصد أنّ هذه المزاوجة تدفع بالطبقة العاملة إلى التحالف مع البرجوازيات المحلية المعادية للكولونيالية أو الامبريالية فيتم بالنتيجة تحييد الصراع الطبقي. في المقابل، يشير البعض إلى أن مشروع المزاوجة هذا بالذات، بين الصراع الطبقي والتحرر الوطني، هو الذي دفع بالأحزاب الشيوعيّة إلى قيادة المجتمع والدولة في حالات متعددة أهمها المستمرة حتى اليوم في الصين وفيتنام.
في لبنان بات من الضروريّ أن تبدأ الأسئلة قبل ذلك حتى. ماذا نعني بالتحرر الوطني؟ وماذا نعني بالصراع الطبقي؟ اليوم في هذه الحرب يواجه لبنان احتمال وخطر احتلال أراضيه ولا يمكن للشيوعيين إلا أن يكونوا في مواجهته. لكن لم يتصرف الحزب سابقاً أنه بتحرير الأرض واكتساب اللبنانيين حق تقرير المصير على أرضهم قد أُنجِزَتْ مهمة التحرر الوطني! وهو ما عقّد موقف الحزب أكثر إزاء هذه المسألة. صحيح أن التحرر الوطني ليس لحظةً تنقضي لكنه لا يمكن أن يكون مبهماً وحمّال أوجه. فبعد إنجاز التحرير وتقرير المصير ماذا يعني التحرر الوطني سوى صونه ببناء "الحصن الوطنيّ" السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والعسكري والتكنولوجي الحافظ له؟
ثمّ في عالم تتلاطم صفائح قواه السائدة والصاعدة في حَيْف الأرض (Rimland) وقلبها (Heartland) عند أكثر من فالق، في الساحل الشماليّ للبحر الأسود وشرقيّ المتوسّط ومضيق تايوان، في هكذا عالم تقع على الشيوعيّين مهمّة أن يجيبوا على كيفية صون بلادهم وتموضعها. وتصعب المحاججة هنا بأن لبنان أكبر من يوغوسلافيا وسائر دول عدم الانحياز أيام الحرب الباردة.
أمّا مهمّتهم الأساسيّة الأخرى فهي ثوريّة اجتماعيّة. إن فشل الحزب طوال مئة عام في بناء قاعدة اجتماعية تخوّله فرض برنامجه حول العدالة الاجتماعية والعلمانية وغيرها تعود أسبابه حتماً إلى عوامل ذاتيّة، لكن الأهم أن هذه الأسباب تتعلّق أيضاً بما أشار إليه ماركس في "نقد برنامج غوتا" حينما خلص إلى أنّ "الحقّ لا يمكن أبداً أن يعلو على البنية الاقتصادية وعلى درجة التمدن الثقافيّ الملازم لها". فهل كانت البنية الاقتصادية القائمة تسمح بتطبيق بنود البرنامج!؟
يعني ذلك أن النضال من أجل العدالة الاجتماعية وحكم القانون والحقوق السياسية والقيم التقدّمية في لبنان لا يمكن إلا أن يكون أوّلا نضالاً من أجل خلق البنية الاقتصادية والاقتصاد السياسيّ المناسب لهذه الحقوق والقيم. وهذا لا يعني فقط وببساطة أن أجوراً أعلى مثلا تشترط اقتصادا أكبر، بل انه مع تطور البنية الاقتصادية، تنمو وتنبني أكثر فأكثر القاعدة الاجتماعية المؤهلة لحمل المشاريع والقيم التقدمية.
من هنا وخصوصاً في بلد كلبنان تتضح أهمية وراهنية فكرة دنغ شياوبينغ بأنّ "التنمية هي المبدأ المطلق". ومن هنا على الحزب أن يستحضر الفهم اللينينيّ بأنّ "الشيوعيّة = كهربة البلاد + قوة المجالس التمثيليّة"، واضعاً تطوير البنية الاقتصادية على رأس الأولويات.
ومن هذه الزاوية يجب الدخول إلى مسؤوليّة الحزب في الإجابة التاريخيّة الحاسمة على "المسألة الطائفيّة"؛ لأنّ الطائفيّة هي روح المجتمع القديم، ولكونها ربما أكثر سمات "قرن الإذلال" حضوراً في وعي اللبنانيين.
الطائفية لا هي "تُلغى" نهائياً بإجراء قانونيّ ولا هي بنية سرمدية عصيّةٌ على التفكيك. يُستفاد هنا من إسهامات فواز طرابلسي الأخيرة التي تساعد على معاينة المسألة بوصفها تطوّراً تاريخياً أودى إلى "تفاوت في مواقع تلك الجماعات من واحدة أو أكثر من الأنصبة الآتية، امتيازا أو حرماناً: السلطة السياسية، وسائل العنف (العسكرية والأمنية)، القطاعات المميزة في الاقتصاد، الوصول إلى الموارد المادية وخدمات الدولة، الحصة من الثروة الاجتماعية، الرأسمال الثقافي من خلال التعليم، اكتساب الفوارق العددية بين السكان محمولات سياسية اجتماعية واقتصادية". وقد تقدم بطروحات برنامجيه حول "التجويف الاقتصادي والاجتماعي للطائفية" عبر العدالة الاجتماعية.
ينشغل كثيرون، بلا طائل، في البحث بكيفية "إلغاء" الطائفية، فيما المطلوب سحب عصبها ونزع مخالب الطوائف السياسية عبر "تجويف الطائفية". يتطلب ذلك تطوير البنية الاقتصادية على نحو يشمل المجتمع ككل، ودورا اجتماعيا للدولة في تأمين التعليم والصحة والخدمات وحكم القانون وضمان الترقي الاجتماعي وخفض حدة اللامساواة في الدخل والثروة، ونظاما سياسيا ديموقراطيا لا يسمح بتغلّب طائفة على أخرى، وبناء "الحصن الوطني" (تشكيلات عسكرية حكوميّة نظامية وغير نظامية، وخدمة علم إلزامية، وجبهة داخلية، وبنى تحتية دفاعية، وتسليح، واتفاقيات دولية) وسيلة المجتمع للدفاع عن نفسه. إن تطوير البنية الاقتصادية يساهم في خفض حدة التنافر المناطقي والطائفي ويزيد من الارتباط المادي بين المناطق ويرفع كلفة المشاريع الفئوية.
وتشكّل المسألة الآيديولوجية حجر الزاوية للاضطلاع بما تقدم من مهام وغيرها. على الشيوعيين اللبنايين أن يسألوا أنفسهم ماذا يعني اليوم أن تكون شيوعياً في لبنان؟ إذا كنتَ تريد العلمانية وحكم القانون فكيف تختلف عن الليبرالي؟ إن كنت تظن التحرر الوطني "ثورة دائمة" فكيف تختلف عن الأنتي-امبريالي الراديكالي؟ إذا كنتَ تريد استقلالية القضاء فكيف تختلف عن المنظمات غير الحكومية؟ إذا كنتَ تريد اقتصاداً منتجاً فكيف تختلف عن البرجوازي؟ إذا كنتَ تسعى إلى جميع هذه الأمور في سياقات متفرقة فسيصعب في كل سياق ألا تكونَ نسخة ناقصة عن كل واحد من هؤلاء في سياقه.
هذه ليست دعوة لنقل الصراع الطبقي من الحقل السياسي وحصره في الحقل الآيديولوجي. لكن لبنان قد يكون من أكثر المجتمعات خضوعاً للأيديولوجيا البرجوازية\النيوليبرالية. وأبرز تمظهرات هيمنتها المطلقة هو أن الجميع في لبنان سيتفاجأ حين تتحدث عن الآيديولوجيا! وتبدو كلمات آدم سميث من سياق مختلف تماماً قريبة جدا لوصف أثر هذه الهيمنة إذ يبدو الفرد وكأنه "تقوده يد خفية لتعزيز غاية لم تكن جزءاً من نواياه". في حين يُحكم الجهاز الأيديولوجي حصاره على الطبقات الشعبية في الإعلام والتعليم والطائفة والعائلة والأحزاب الطائفية والمؤسسات الثقافية ومكان العمل والمجتمع المدني والنفور من التنظيم السياسي ورعاية مصرف أو وجيه لنشاط رياضي وسخرية مزمنة من وجود مصلحة سكة حديد عوض المطالبة بتشغيل سكة الحديد... الخ.
من هنا فالمسألة الآيديولوجية ماثلة أمام الشيوعيين لمقاومة هيمنة الآيديولوجيا البرجوازية\النيوليبرالية. والآيديولوجيا أداة رئيسية بل شرط أساسي لبناء القاعدة الاجتماعية للحزب. أما عن كيفية بناء الآيديولوجيا الثوريّة فيمكن الاسترشاد بقول ماو عن الأفكار الصحيحة أنها لا تهبط من السماء ولا هي فطرية إنما هي "تأتي من الممارسة الاجتماعية في النضال من أجل الإنتاج والصراع الطبقي والتجريب العلمي". وثوريّة هذه الأيديولوجيا تتحدد بمدى خدمتها للهدفين الأساسيّين: تنمية البنية الاقتصادية أوّلاً والعدالة الاجتماعية لاحقاً. وهي يجب أن تُبنى لتصلح أن تكون أيديولوجيا المجتمع الجديد والحلم اللبناني.

 

  • العدد رقم: 426
`


محمد بزيع