مائة عام ثورة.. ومعين العطاء لم ينضب

مئة عام نضال وثورة، وشهادة لا تختصرها كلمات لحزب ينهل من معين المبادئ الشيوعية التي لا زالت، ورغم كل ما حصل خلال العقود الماضية، موجها لملايين البشر حول العالم، حزب جذوره ضاربة في أعماق أرض ما انبتت الا أحرارا مدافعين عن الحرية والعدالة. الحزب الشيوعي اللبناني احد قلة من الأحزاب العربية التي نجحت بإتقان في المزاوجة ما بين النضال المحلى من اجل الطبقات الفقيرة والكادحة وضد النظام الطائفي الذي لا مكان فيه لعدالة اجتماعية وديمقراطية وتنمية، وبين النضال الاممي ضد سياسات العولمة والنهب الامبريالي، التي تؤكد التطورات على امتداد العالم حقيقتها، ناهيك عن دوره المشهود في تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وحمل راية التصدي للاجتياح الإسرائيلي للبنان ودعوته لحمل هذه الراية على مساحة الوطن العربي..

قرن نضالي مضى من عمر الحزب الشيوعي اللبناني وما زالت الأجيال تنهل من ينابيعه وتتشعب روافده في محطاته المركزية والتاريخية لتنطلق الى حاضر تشي عناوينه ان التاريخ يستعيد وجهته الصحيحة في خدمة الشعوب وحركاتها السياسية التقدمية والديمقراطية واليسارية. فتقدم القوى الاشتراكية واليسارية على مساحة العالم، وتراجع نفوذ قوى الاستعمار والامبريالية على الصعيد العالمي، بفعل أزمات الرأسمالية الاقتصادية والمالية وأيضا السياسية، كلها إشارات تعيد التأكيد، رغم كل ما جرى، ان الاشتراكية والديمقراطية ما زالت هي الحل لأزمات الشعوب وقضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي لا تبنى إلا على قاعدة من الديمقراطية، التي تؤمن للقوى العمالية والمثقفة الثورية والليبرالية المعادية للاستغلال، المزيد من الفرص لتتقدم إلى أمام، على طريق اندحار الرأسمالية النيو-ليبرالية المتوحشة، والامبريالية وكل أشكال الاستعمار.
ولما كانت احزاب اليسار العربي قد صاغت برامجها النضالية وساهمت بفعالية في رسم مشاريع التحرر الوطني والديمقراطي للبلدان العربية، فان واقع هذه البلدان يعطي الأحزاب والحركات اليسارية خاصة فرصة بأن تكون راس حربة التحركات الجماهيرية والمحرك الأساس لثورة التغيير في مجتمعاتنا، وان تتصدر صفوف القوى الثورية في دفاعها عن شعوبها. وقد ادرك الحزب الشيوعي اللبناني بشكل مبكر لحقيقة الاطماع الغربية في منطقتنا بعد احتلال فلسطين، وادرج قضية فلسطين كعنوان مركزي في النضال العربي التحرري منذ مؤتمره الثاني في العام 1968، انطلاقا من حقيقة ان وجود الكيان الإسرائيلي في قلب المنطقة العربية هو عامل معرقل لكافة التجارب التنموية والتحررية، وبالتالي فان النضال التحرري العربي لا يمكن ان يستقيم دون مواجهة أطماع الحركة الصهيونية التي تقاطعت مصالحها مع الامبريالية العالمية، فكانت ولادة الكيان الإسرائيلي كنقطة مركزية متقدمة تدافع عن مصالح الامبريالية وقوة ضاربة لقمع حركات التحرر في المنطقة..
كثيرة هي الاجتهادات والتباينات وحتى الاختلافات الفكرية والسياسية بين مكونات الحركتين الشيوعية واليسارية العربية، لكن المسألة المتفق عليها هي اننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني والديمقراطي، بكل ما يمليه ذلك من مهام، قد تختلف بين بلد عربي وآخر، لكن القاسم المشترك بينها انه وعلى رغم عمرها القصير بقياس التاريخ، فقد تعرضت لقمعٍ متوالٍ خلال العقود الماضية، وتوافقت على قمعها القوى الدولية المهيمنة والنُظم الاستبدادية الطبقية الإقطاعية وشبه الرأسمالية المحلية. وعانت تاريخيا على اختلاف تشكيلاتها من سلسلة من المعيقات الموضوعية المتمثلة بغياب الحريات الديمقراطية في معظم البلدان العربية وغياب التعددية السياسية والحزبية الحقيقية وبالقمع المسلط على أحزاب الطبقة العاملة وطمس الحريات النقابية او ربط النقابات بأجهزة الدولة البيروقراطية، وعدم تشريع النضال الاقتصادي والسياسي، كما عانى هذا اليسار من نمط التطور الاقتصادي المشوه الذي حد من نمو الطبقة العاملة او احاطها ببحر من الشرائح الهامشية في المجتمع كالشرائح الدنيا للبورجوازية الصغيرة، وتفاقم هذا الوضع في السنوات الأخيرة على ضوء الازمة الاقتصادية العميقة التي تجتازها كافة الأقطار العربية.
لذلك لا غرابة ان تكون مطالب كافة قوى التغيير في بلداننا، سواء كانت يسارية او غير ذلك، مستوحاة من الشعارات التي طرحتها القوى اليسارية في مراحل النضال الأولى ضد الاستعمار المباشر وفي الفترة الانتقالية التي مر بها النضال الوطني على أعتاب الاستقلال كالمطالبة بالحرية والسيادة الوطنية وحقوق المواطنة والدولة المدنية، وكأنها تستعيد وتطرح من جديد مهمات النضال من اجل الحداثة والتنوير، التي أعطت هذه البلدان أفضل ما لديها في حقول العلوم والفنون والآداب على أيدي رواد الحداثة والتنوير في المراحل الأولى لبناء الدول بعد الانفصال عن الدولة العثمانية.
ان الصراع المستقبلي، والى جانب ابعاده ذات العلاقة بالصراع من العدو الصهيوني، فيجب ان يدور حول هوية الدولة ودستورها، وحقوق المواطنة فيها ومساحة الحريات العامة والديمقراطية وقضايا جوهرية أخرى تتصل بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات الوطنية واتجاهات توظيفها للنهوض باقتصاد وطني متحرر من التبعية للمركز الرأسمالي ومن خطط وبرامج وأوامر أدوات العولمة الأميركية، فهذه عناوين لم تحسم بعد في عدد من الدول العربية، رغم مرور عشرات السنين على استقلالها. مع الحذر الشديد من إمكانية تدخل القوى الخارجية التي لا مصلحة لها في انتقال دولنا الى دول تعيش الاستقلال الحقيقي البعيد عن التبعية والوصايات الخارجية، بعد ان افقدت سلطات الاستبداد بلداننا دورها وحولتها الى دول هامشية تابعة. اذ ليس على مستوى الاقتصاد والسوق نجد التدخل الخارجي على شكل أوامر وخطط من الخارج من أدوات العولمة الأميركية في طورها النيوليبرالي، بل وكذلك في الخيارات السياسية والسياسات الخارجية وغيرها، دون حد ادنى من المراعاة لأولوية سيادة الدول في العلاقات الدولية، فضلا عن أوامر العولمة في الثقافة والفنون والمعايير الثقافية والأخلاقية.
لقد استشرف الحزب الشيوعي اللبناني منذ زمن الابعاد المتعددة للصراع، وأعطى البعد العربي دوره حين دعا الى العمل لبناء وتنظيم مقاومة عربية شاملة للتحرر الوطني يلعب فيها هذا اليسار دورا قياديا بارزا، مقاومة تتوحد فيها الطاقات حول مركزية القضية الفلسطينية، وتواجه المواقف الرجعية العربية وتعتمد كل أشكال النضال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والثقافي.. فاليوم يتأكد ان المشروع الأمريكي الإسرائيلي لا يستهدف فلسطين وارضها وشعبها فقط، بل والشعوب العربية، وهو الى جانب سيطرته على الأرض الفلسطينية وتهجير شعبها في اطار مشروع استعماري، الا انه يسعى الى احكام سيطرته وهيمنته على مقدرات وثروات شعوب المنطقة.. لذلك فان أي انجاز يتحقق على مساحة الأرض العربية المستهدفة بالمشروع الأمريكي الإسرائيلي، انما هو انتصار لنا جميعا، وان افشال او اسقاط مشاريع التطبيع وتعطيل آلياته، وقطع الطريق عليه فهو مصلحة لكافة قوى المقاومة، وهذه مهمة الشعوب العربية ومعركتها الوطنية والقومية، ومعركة أحزابها السياسية التي تنتسب في الإطار العام إلى جبهة مقاومة التحالف الأميركي – الإسرائيلي ومشاريعه في المنطقة.
كما أن معركة مجابهة التطبيع ومقاومته، تندرج في إطار النضال الجماعي الذي يتحمل مسؤولياته كل من ينتسب إلى جبهة المقاومة العربية بامتداداتها الإقليمية، وبمراكزها التي لا تقتصر فقط على الأوضاع العربية. ونحن، الفلسطينيون، جزء من جبهة المواجهة، لذلك يصبح المطلوب منا، في خضمّ هذه المواجهة، هو تصعيد النضال ضد الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وضد السياسات الأميركية في سياق انخراطنا في استراتيجية مقاومة عامة وشاملة على امتداد هذا الإقليم. خاصة وان مقاومة هذا المشروع لم تعد واجب الفلسطيني وحده، ولم تعد مهمة شعوب المنطقة، التضامن فقط مع الشعب الفلسطيني، بل يجب ان تسع جبهة مقاومة الاحتلال لتطال المنطقة العربية برمتها، وهذا يتطلب البحث في كيفية بناء جبهة مقاومة عربية وعالمية، تتحمل فيها شعوبنا، بقواها الوطنية والقومية والديمقراطية واليسارية مسؤولياتها التاريخية.
ان تجربة مائة عام من النضال السياسي والفكري والعسكري والديمقراطي الاجتماعي تؤكد اننا امام مرحلة نضالية معقدة يتقاطع فيها النضال بمختلف اشكاله المحلي والإقليمي والعالمي. واذا كانت أحزاب اليسار العربي قد صاغت برامجها النضالية وساهمت بفعالية في رسم مشاريع التحرر الوطني والديمقراطي للبلدان العربية، فالمنطقي أن تشكل هذه الأحزاب والحركات الشعبية المحرك الأساس لثورة التغيير في مجتمعاتنا، وان تتصدر صفوف القوى الثورية في دفاعها عن شعوبها أولا وفي مواجهة ما يتهدد امتنا، خاصة العدو الإسرائيلي الذي ما زال وسيبقى يشكل الخطر الأول على حاضر شعوبنا ومستقبلها.

*عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

  • العدد رقم: 426
`


فتحي كليب