مائة عام من النضال لقضايا شعبنا ووطننا

لم تكن الذكرى المئوية لتأسيس حزب الشعب اللبناني – الحزب الشيوعي، مناسبة عادية وخبراً ينتهي بعد حدوثه. والإهتمام في ذكرى تأسيس هذا الحزب ودوره لا يقتصر على الشيوعيين فقط، فهو في فكره وأهداف نضاله على ارتباط عضوي وثيق بشعبنا ووطننا، وبكل الطامحين الى التقدم والتغيير. وهو لا يشيخ ولا يعجز. إنه متجدّد بفكره وشبابه. وقد ولد من صميم واقع شعبنا، من عماله وشبابه ومثقفيه الثوريين. ويبقى ما دام الشعب باق.

لم يكن تأسيسه صدفة أو نزوة لشخص أو بضعة أشخاص، بل كان استجابة لضرورات نضالية وطنية واجتماعية، واستكمالاً لمسيرة شعبنا التاريخية في الظروف الجديدة. ومن أبرز مؤسسي هذا الحزب، يوسف إبراهيم يزبك، وفؤاد الشمالي، وفريد طعمة، بطرس حشيمة، ثم أرتين مادويان وغيرهم. وإن لمكان الاجتماع التأسيسي في بلدة الحدث – بيروت، وزمانه في 24 تشرين الاول 1924، ولنشاطه الاحتفالي العلني الأول في أول أيار عام 1925، في سينما كريستال – جنب ساحة الشهداء، دلالات لبنانيته وطنياً، وهويته الاجتماعية طبقياً. لقد شكّلت ولادة هذا الحزب تعبيراً عن مصالح وحقوق طبقة جديدة متنامية هي طبقة العمال والفئات الشعبية الكادحة. وانتقل اسمه الى الحزب الشيوعي اللبناني بعد حوالي سنتين على تأسيسه. ثم أصبح متداخلاً مع توأمه الحزب الشيوعي السوري الشقيق. استلهم في دوره الروح النضالية للعاميات والثورات الفلاحية والشعبية في القرن التاسع عشر، ودور رواد النهضة الوطنية، وتقاليد نضالية أخرى. وحمل فكراً جديداً تغييرياً ومتأثرا بأفكار الثورة الفرنسية، وفكر ثورة أكتوبر الاشتراكية ووهج انتصارها، ومتسلحاً بالمنطلقات والمنهج الماركسي، ليس لتكييف الواقع اللبناني وفقا للنظرية، بل لمعرفة الظروف الملموسة والصراع الجاري في بلدنا، لوضع خطّة الحزب السياسية ومهامه النضالية في ضوء ذلك.
لقد كانت رؤية الحزب الى اليوم تقوم على الترابط الموضوعي بين الوجه الوطني للنضال والوجه الاجتماعي والديمقراطي. وهذان الوجهان طبَعا مسيرته ونضاله ضد الانتداب الفرنسي ومن اجل استقلال لبنان من جهة، ودفاعا عن حقوق العمال والكادحين من جهة أخرى. فكان رائدا في إنشاء نقابات عمالية مستقلة عن السلطة وأرباب العمل، لتوحيد صفوف العمال ووحدة نضالهم لانتزاع حقوقهم.
لم يكن هذا الحزب لشخص أو زعيم ولا لطائفة أو مذهب أو عائلة. ففي فكره وبنيته البشرية عابراً للطوائف والمناطق، وهو بطبيعته هذه لبناني بامتياز، ينطلق في مواقفه وممارساته من مصالح الشعب والوطن، ومن مطامح شعبنا في التحرر الوطني والاجتماعي، ومنفتح على القوى والشخصيات الوطنية في الدفاع عن وطننا. لقد كان فرج الله الحلو قائد حزبنا مثالاً بدوره الوطني البارز، في تلاقي الشخصيات الوطنية في معركة الاستقلال، وكان مسؤولا في المؤتمر الوطني في تشرين الثاني عام 1943 عن مكتب التعبئة الشعبية في البلاد. وشكّل دوره مع رفاقه بالتحرك الجماهيري الكبير في جميع المدن اللبنانية، العامل الحاسم في انتزاع الاستقلال. وكان من نتائج النهوض الشعبي إنشاء الإتحاد العام لنقابات العمال والمستخدمين برئاسة القائد النقابي الشيوعي مصطفى العريس. ثم فرض هذا الإتحاد إقرار قانون العمل اللبناني عام 1946. لكن خشية السلطة البرجوازية من هذا الدور الناهض للحزب والنقابات وللحركة الشعبية، جعلها تستخدم قرار مجلس الأمن الدولي بتقسيم فلسطين وموافقة ممثل السلطة السوفياتية عليه، ذريعةً لشنّ حملة قمعية ضد الحزب وإلغاء علنيته حتى عام 1970، ولضرب الإتحاد النقابي العمالي العام، مع أن قائد الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو ورفاق له، عارضوا قرار التقسيم خلافاً لموقف البعض في القيادة الحزبية التي كانت مشتركة بين سوريا ولبنان. علما أن معظم السلطات العربية كانت موالية للغرب الاستعماري، صانع "إسرائيل" وحاميها.
وقد أكد المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي الذي عقد عام 1968 صحة موقف فرج الله الحلو ضد التقسيم. وليست خافية المشاركة الجماهيرية للحزب في الساحات، تضامناً مع القضايا والمعارك التحررية للشعوب العربية، ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 على اثر تأميم قناة السويس، وضد الحرب العدوانية على بلدان حركة التحرر العربية في حزيران عام 1967، ومع ثورة الشعب الجزائري، الخ..
لقد واصل الحزب نضاله في جميع المجالات وضد اسرائيل وعدوانيتها وطبيعتها العنصرية والتوسعية، ومساندته للشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية في وطنه. ووقف مع قوى وطنية أخرى ضد تخاذل السلطة اللبنانية حيال اعتداءات إسرائيل على مطار بيروت عام 1968، وعلى القرى الأمامية الجنوبية مما دفع الحزب لإنشاء حرس شعبي في تلك القرى لمواجهة اختراقات الكوماندوس الصهيوني عام 1969. وكان للحزب دورا أساسيا في تحالف الحركة الوطنية ودورها وبرنامجها للإصلاح المرحلي لبناء لبنان سيد عربي ديموقراطي علماني. كما كان الحزب مبادراً في إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في أيلول 1982، لتحرير بيروت ثم المناطق اللبنانية الأخرى المحتلة من رجس الاحتلال الصهيوني. وقد قدمت "جمول" بانتصاراتها مثالا للشعب اللبناني والشعوب العربية يعزز آمالها بإمكانية التحرير والانتصار على جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبمشاركة قوى مقاوِمة أخرى.
لقد مرّ الحزب في بعض المراحل بصعوبات ومحاولات لطمس دوره وإضعافه، وكان استبعاده المفتعل أثناء مؤتمر الطائف والتحضير له، وبعده، لأنه كما قيل، لا يمثّل طائفة.. بينما يمثّل في موقفه وسياسته مصالح لبنان وطناً وشعباً.. وكانت النتيجة إعادة النظام السياسي والدولة على نفس الأسس الطائفية، التي أوصلت لبنان الى الحرب الأهلية، وأوصلتنا اليوم الى تفشي الفساد وسرقة مال الدولة والودائع في المصارف، والى الانهيار الكبير وتحلُّل الدولة والانقسامات الداخلية.
وقد كان للحزب دورٌ بارز في التحركات الشعبية الناقمة على سياسات السلطة الاجتماعية وفسادها، وفي إنتفاضة ١٧ تشرين المليونية التي شكلت تعبيرا حقيقيا عن إرادة شعبنا بالتغيير.
إن تجسيد الحزب لمصالح شعبنا ومطامحه، يلتقي مع ذات المطامح التحررية لشعوبنا العربية . كما يلتقي موضوعياً مع نضال شعوب العالم من أجل تحرير الإنسانية من الظلم الاجتماعي والاضطهاد القومي المرتبط بطبيعة الرأسمالية ومرحلتها الإمبريالية ، وسعي دولها لحل أزماتها بالتدخلات والاعتداءات والحروب العدوانية على الشعوب والبلدان الأخرى لنهب ثرواتها.
لقد كتب مناضلو الحزب الشيوعي اللبناني بتضحياتهم وبشهدائهم صفحات مشرقة في تاريخ شعبنا ووطننا. وإن هذا الحزب ذا التاريخ المجيد هو حزب المستقبل الذي يطمح فيه شعبنا إلى بناء نظام ومجتمع جديد، يحقق العدالة الاجتماعية والاشتراكية. وهو يناضل اليوم من أجل أوسع تعبئة وطنية وشعبية في مواجهة العدو الصهيوني وحربه الوحشية على لبنان ، وللخروج من دوامة الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية ، بإقامة دولة مواطنة توحّد اللبنانيين.. دولة عدالة اجتماعية.. دولة قادرة على حماية لبنان لتكون المرجعية الثابتة التي تجمع قوى شعبنا وطاقاته في كنفها.
تحية لمؤسسي هذا الحزب وشهدائه ومناضليه، حزب التاريخ المجيد.. حزب المستقبل. تحية لجميع شهداء المقاومة ضد العدو الصهيوني ومطامعه في وطننا.

  • العدد رقم: 426
`


موريس نهرا