بؤرة المدارس الخاصة في دولة المحاصصة

 المدارس الخاصة أو المدرسة المستقلة هي من المؤسسات التعليمية التي تُعرف باستقلاليتها التامة فيما يتعلق بشؤونها المالية والإدارية، وهي مموّلة من القطاع الخاص بعكس المدارس الرسمية التي تدار من قبل مؤسسات الدولة التربوية. تشكّل المدارس التابعة للطوائف والمذاهب فئة فرعية من المدارس الخاصة، والتي ترفق في مناهجها التعليم الديني مع المواد الأكاديمية المعتادة لإثارة معتقدات دينهم وتقاليدهم لدى الطلاب. فأين تكمن المشكلة مع المدارس الخاصة؟ وكيف تستغل هذه المدارس نفوذها؟


كثيراً ما تخالف المدارس الخاصة بعض التعاميم الحكومية الصادرة من وزارة التربية والتعليم العالي. في هذا السياق، نشهد في الآونةِ الأخيرة حالةً من الهرج والمرج بين المدارس الخاصة ووزير التربية، فالمدارس الخاصة معترضةً على قراره الأخير، لاعتبارها أنه يمسُّ بأرباحها وتحاول الضغط عليه لتغير موقفه، إذ لا يهمها مصلحة تلاميذها، إنما ما يهمها هو مصلحتها وعدم المسّ بأرباحها. فهنا يفرض "كارتيل المدارس"، شروطه، مغلّباً بذلك مصالحه التجارية - المالية فوق أي اعتبار آخر.

"كارتيل" المدارس الخاصة...
يتألف "كارتيل المدارس" من المدارس الكاثوليكية، وشبكة مدارس المقاصد - التي أنشأها تاريخياً أبناء النخبة السنيّة المتمركزة في العاصمة بيروت والمبرات والمدارس الإنجيلية والمدارس الأرثوذكسية، بالإضافة إلى مؤسسات الحريري التربوية التي لها نفوذ في وضع السياسات والقوانين، مرفقين مع نفوذ بعثات الدبلوماسية وبخاصة الفرنسية. تقول الأرقام أنّ هناك 127مدرسة خاصة تضم أكثر من 1000 تلميذ كلٍّ منها ، وهي لا تشكل% 12 من مجموع المدارس الخاصة، كما تضم حوالي 214 ألف تلميذ من أصل 559 ألفاً، تمتلك هذه الطبقة حوالي % 39 من مجموع التلاميذ، بحسب الأرقام التي عرضها الباحث نعمه نعمه في دراسته الأخيرة. وتجني هذه المدارس أرباحاً تصل إلى حوالي 500 مليون دولار سنوياً، وتستغلّ نفوذها لتأمين مصالحها، وتعزز عملها بشبكة زبائنية، تتبع إلى منظومة طائفية، فهي تمثل طبقة حاكمة هنا. بالمقابل نجد في وجهها طبقة الأهل والتلاميذ المتحدرّين من الفئات الفقيرة في المجتمع.

هذا التفلّت مردّه إلى غياب الرقابة التي تعتمد على لجنة الأهل في أغلب الأحيان أو التي بدورها معيّنة من إدارة المدرسة، في مشهد يشبه التهرّب الضريبيّ على الأرباح التي تحدث في معظم المصارف التجارية في لبنان، بالرغم من الكلفة الباهظة الثمن التي عادة يتكبدّها الأهل عند دفع الأقساط المدرسية في المدرسة الخاصة.

تفاقم الأزمة...
كانت تتوقع لجان الأهل أن تلتزم العائلة التربوية بالاتفاق الذي جرى في وزارة التربية في الثالث من أيار 2019، حيث تم الاتفاق على توزيع الأعباء والخسائر مع إعطاء الأولوية لتأمين الرواتب والأجور كاملة. ولكن من الواضح أن إدارات المدارس تنصّلت من الموضوع لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك، مقابل 13 ألف أستاذ في التعليم الخاص يوجد أكثر من مليون ولي أمر ممن أصبحوا في عداد " المعطليّن عن العمل"، وفقاً للأرقام الصادرة عن اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة في لبنان. لجان الأهل دعت الأساتذة للتكاتف والتعاون مع الأهل المطالبين بفتح الميزانيات وكشف قطع الحساب لمعرفة مصير الأموال وتحصيل حقوقهم. بالتأكيد، نحن لا ننكر دور المدارس الخاصة في رفع مستوى التعليم، ولكن هذا ليس موضوع مقالنا، بل نحن نسلّط الضوء على ممارساتها واستغلال نفوذها بشكل يتعارض مع المبادئ التي قامت لأجلها المؤسسات الخاصة وبعيداً في كثير من الاحيان عن الشفافية والنزاهة.

الصرف التعسّفي...!
مع اقتراب العام الدراسي من نهايته، بدأت بعض إدارات المدارس تلوّح بالصرف الكيفي متسلحة بالمادة 29 من قانون المعلمين، الذي وصفه" نقابيات ونقابيون بلا قيود" في بيانه الأخير بالعار على قانون المعلمين وعلى العمل النقابي الذي لم يستطع إلى الآن إبطالها. وتنص المادة 29 وفقاً لتعديلها بموجب القانون المنفذ بالمرسوم رقم 17384 تاريخ 2/9/1964 والقانون رقم 44/87 تاريخ 21/11/1987 على التالي: في البداية يحق لرئيس المدرسة أن يصرف من الخدمة أي فرد من أفراد الهيئة التعليمية على أن يرسل إليه بذلك كتاباً مضموناً مع إشعار بالاستلام قبل الخامس من شهر تموز من كل سنة وإلا أعتبر مرتبطاً بالمدرسة للسنة المدرسية التالية ويمكن إبلاغ الكتاب إلى صاحب العلاقة مباشرة مقابل توقيعه بالاستلام على نسخة طبق الأصل من هذا الكتاب عوضاً عن البريد المضمون. ثانياً إذا حصل الصرف خلال السنة الدراسية لغير الأسباب التأديبية أو الصحية المبنية على قرار اللجنة الطبية المختصة بالموظفين في وزارة الصحة تعتمد الأسس التالية": إذا كان المصروف متعاقداً متمرّناً وصرف من الخدمة بعد الخامس عشر من شهر شباط فيجب دفع مرتباته حتى آخر السنة المدرسية. إذا كان المصروف داخلاً في الملاك أو متعاقداً فيجب دفع مرتباته وملحقاتها حتى آخر السنة المدرسية أيّاً كان وقت صرفه من الخدمة. ثالثاً في حالات الصرف غير التأديبي، لصاحب العلاقة إذا رأى في صرفه إساءة لاستعمال الحق أن يعترض ضمن مدة شهرين من تاريخ تبليغه كتاب الصرف وتحت طائلة سقوط الحق أمام قاضي الأمور المستعجلة التابع له مركز المؤسسة أو المدرسة. يحاول قاضي الأمور المستعجلة عند الاقتضاء تسوية الخلاف عن طريق إعادة المصروف إلى عمله. وإذا تعذّر ذلك وثبت له أن في الصرف إساءة لاستعمال الحق، يحكم على المؤسسة أو المدرسة بتعويض إضافي للمصروف يعادل راتب شهر مقابل كل سنة خدمة في المؤسسة أو المدرسة عن السنوات العشر الأولى ويتراوح بين شهر وشهرين عن كل سنة خدمة لاحقة. ويكون قرار قاضي الأمور المستعجلة نهائياً وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة. ويعتبر من قبيل إساءة استعمال الحق صرف أي فرد من أفراد الهيئة التعليمية من الخدمة لتقيده بمقررات نقابته أو مطالبته بحقوق أقرّها القانون. للمصروف من الخدمة أن يحتفظ بكامل مبلغ التعويض الإضافي المحكوم له به، ورابعاً للمصروف من الخدمة في جميع الحالات، أن يتخذ من تعويض الصرف القانوني أحد الخيارين التاليين: أن يدفع التعويض المحكوم له به إلى صندوق التعويضات إذا عاد إلى الخدمة في التعليم وطلب ضمّ خدماته السابقة، وفي هذه الحال يحق له استعادة المحسومات المدفوعة للصندوق المذكور عن الخدمة التي تقاضى عنها هذا التعويض أن يحتفظ بالتعويض إذا ترك التعليم نهائياً أو إذا عاد إليه ولم يضم خدماته السابقة".
الكارثة وقعت بعد قرار إدارات عدد كبير من المدارس الاقتطاع من رواتب أساتذتها وموظفيها في ظلّ الأزمة الحالية، فبدأت الصرخات النقابية والاجتماعية بالتصاعد بحجة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وتخلف الأهالي عن دفع الأقساط. وأنزل عدد من المدارس الخاصة، نهاية الشهر الماضي، عقاباً جماعياً بالمعلمين من خلال اقتطاع من الرواتب وصل إلى 70% في بعض المدارس. وبعض المدارس الإنجيلية والكاثوليكية، اكتفت بنصف راتب أو 40 % منه. أمّا مدارس السان جورج في الحدث لصاحبها الفنان راغب علامة قررت إعطاء 30% من الرواتب لهذا الشهر، رغم تقاضيها الأقساط، بحسب مصادر المعلمين التي بدت متردّدة في الإدلاء بأي موقف.

"الشيوعي"...
مرة جديدة، استخدمت الإدارات الرواتب ورقة ضغط لوضع المعلمين في مواجهة الأهالي، متجاوزة القوانين التي تفرض عليها الالتزام بعقود المعلمين وشروط عملهم. وأتى ذلك في ظلّ عودة نغمة مطالبة البعض بأن تغطي الدولة رواتب المعلمين من الخزينة العامة، انطلاقاً من كون التعليم حقاً للمواطنين، وعلى الدولة تأمين كلفته، إما بإعطاء المدارس الخاصة التكلفة نفسها للتلميذ في المدارس الرسمية، أو بدفع رواتب المعلمين. في هذا السياق، دعا قطاع التربية والتعليم في الحزب الشيوعي اللبناني "كافة الأساتذة في المدارس الخاصة إلى رفض الانصياع لإدارات المدارس مهما كانت الأسباب، مطالباّ الأساتذة بعدم التخلّي عن حقوقهم تحت أي ذريعة "، داعياً إيّاهم إلى "رفع الصوت عالياً أمام التطاول على الحقوق المكتسبة".

"كارتيل" المدارس والمصارف...
لا اختلاف بين" كارتيل المدارس" و" كارتيل المصارف” حيث يسيطر بضعة محتكرين على تقديم خدمة التعليم جاعلين منها ترفاً وليس خدمةً عامة يجب توفّرها للجميع بحسب نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتمّ تكريسه ضمن الحقوق الإنسانية الأساسية. كذلك الأمر بالنسبة إلى المصارف، التي بدورها حقّقت على مدة 30 سنة أكثر من 80 مليار دولار أرباحاً على الفوائد التي تدفعها الدولة، وأيضاً حققت المصارف منذ سنة 2016 حتى اليوم أكثر من 12 مليار دولار أرباحاً على الهندسات المالية التي أجراها مصرف لبنان. تقوم المصارف أيضاً بمخالفة القوانين اللبنانية ولا سيما قانون النقد والتسليف حيث باتت تضع سقفاً أسبوعياً على السحوبات وتمنع إعطاء أصحاب الودائع الصغيرة أموالهم بحجة الوضع القائم، بينما يٌهرِّب كبار المودعين أموالهم إلى الخارج.
إذاً، تتشابه أوجه المقارنة بين المدارس والمصارف فكما أنّ المدارس تسعى للضغط على الوزارة لتأمين مصالحها، فإنّ المصارف تضغط على الدولة والمواطنين من خلال طرق عدة. وفي الحالة موضع الدراسة، تشكّل المدارس تهديداً على الدولة والوزارة وذلك من خلال افتعالها للازمة التربوية الحاصلة حاليا. في ظلّ هذه الخروقات القانونية واستغلال النفوذ الطائفي وبالإضافة إلى الصراع الطبقي الحاصل يوجد حلول تصبّ في مصلحة أبناء الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة وتتمثل بالخطوات التالية: التحرّر من كارتيل المدارس، وضع خطة بديلة وإعطاء المدارس الرسمية أهمية أكبر وجذب التلاميذ إليها، سن قوانين جديدة تراعي التطوّر الأكاديمي والعلمي، وبذلك يصبح لدينا مدارس رسمية بمستوى جيّد ويصبح التوجّه إلى المدارس الخاصة اختيارياً لمن يريد.

خاتمة...
هذا جزء من تفاقم المعاناة والصراع القائم بين كارتيل المدارس ووزارة التربية، والذي سينعكس سلباً على الأساتذة وحقوقهم ومصيرهم المهني من جهة ومن جهة أخرى على الطلاب وذويهم، وسط الأزمات الاقتصادية والمالية وغلاء المعيشة وارتفاع نسبة البطالة... المترافقة مع عجز السلطة وفشلها في إدارة تلك الأزمات والحدّ من تداعياتها ومخاطرها وليس العكس.

  • العدد رقم: 378
`


غدي صالح