تقول: "صحيح أنّ زفتها لا يُخرج ثمار ولا ورود إلّا نادرًا، وغالبًا ما تأتي هذه أقل حلاوة وجمال مما هي عليه في سائر المناطق والعالم، إلّا أنه زفت يعنيني بالصميم."
ولقد سما بعد معنى أرضها بالنسبة إليها عندما وارت هذه الإنسان الأحب إلى قلبها.
وهي تقول أيضًا: "قد أختنق إذا نزحت عن مدينتي. لا أتصورني خارجها ولو من أجل العمل أو السكن." لكنها لا تلبث أن تتراجع لتضيف: "... أو ربما أفعل بحال حصولي على هجرة إلى بلد أوروپي، يحترم حقوق الإنسان."
يحدث أحيانًا أن تتمارى مع سمكة بحرها العاصمة. تُسقط حالها على كائنة متخيّلة تعجز عن التنفس إلّا بين تموجات أطياف بيروت: هنا فضاء الأصدقاء، المعارف، المحلات القديمة والجديدة، الباقي من باعة متجوّلين إنما ثابتين في ذاكرتها... وهنا مساحة الأهل وجيرانهم، لأنها لم تستطع ولا مرّة نسج علاقات جيرة لنفسها بنفسها بسبب توالي تنقلاتها بين البيوت المستأجرة.
2. مع السطور الآتية، تنجلي واحدة من قصص"لايدي بي" وهي تعود إلى قُبيل عام 2005، أيّ الزمن الشاهد على اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري بحوالي 2.5 طنّ متفجرّات أودت معه بحياة 22 آخرين. حينها تزلزل الوطن الحالم بالطمأنينة والسلم، وكان ذلك بُعيد حروب طويلة ومتقطعة، أهليّة وغريبة.
تطلع القصّة إذن من ماضي لا أبيض ولا أسود، بل بلون "الكافيه أو ليه"، وتتقاطع مع قصص أخرى ما زالت تتوالد حتى الآن. علمًا أن العام 2019 لم يشأ أصلًا الأفول دون رسم ملامح أشدّ بؤسًا لـ "قطعة (الـ) سما" البالغة مساحتها 10452 كلم2 وتحتها ترتمي "ستّ الدنيا"، متكيّة على كتف "مينا الحبايب".
3. في منازلها الصاعدة من الطابق الأوّل إلى الأخير، ألفت "لايدي بي" استفتاح نهاراتها بالقهوة ذاتها، من الماركة الأكثر شعبيّة ببلاد الأرْز. تضيف إليها بودرة الكريما الخالية من الدهون لاتباعها "الريجيم" عينه منذ عقدين.
بدايةً، أزال عنها الدايت الصارم ثلث وزنها الزائد. ثم شرع رويدًا رويدًا يخلّصها من كل ما ومن لم تعد ترغب به في فصل قيد الإغلاق، من حياة.
… مع مرور الوقت، وسّعت حدود نظام تناول الطعام إلى "واي أوف ليفينڠ". تلاه أن طوّرت من خلاله الاستغناءات لديها، ولم يكن "المينيماليزم" الياباني قد نبت بعد بين أفكارها.
4. لكن حميمية العلاقة بين "لايدي بي" والماڠ الفخاري الأنيق، لا تسقط الطابع الشعبي عن عادتها. فداخل جغرافيتها الضيّقة كما الواسعة، والتي لا يهدأ غليانها الأمني (حرب تموز 2006/ معارك فتح الإسلام بطرابلس (2007)…)، يشكّل ارتشاف الصنف مع شروق الشمس جزء من روتين شريحة واسعة من السكّان. وهم يختارونه بنسختيه الاقتصاديّة أو الذهبية، مع المبيّض أو الحليب المكثّف، كل حسب ثقافته، قدرته الشرائيّة أو الإثنين معًا. والملفت بالأمر أنّ بين هؤلاء من رفعوا الفعل الدارج والبسيط إلى طقس فريد للتأمل، الإحتفال أو الحب، فيخطفون فناجينهم ليشربوها وحيدين و "على رواق"، مع الصاحب المفضل أو العشيق، من أمام الكورنيش أو بجانب الطرقات الجبليّة. على هذا النحو، مستحيل عبور أيّ شارع فرعي أو رئيسي في لبنان، دون وقوع نظر المار على كشك واحد على الأقل من أجل بيع المشروب السريع، مع إضافاته المرغوبة. ومعروف أنّ المنتج الأساسي وأخواته تأتي كلها من شركة "أُمّ" وحيدة، وإن تعولمت فروعها. أكثر، تحوّل الإسم التجاري لتلك لقهوة إلى مرادفٍ مطلقٍ للكلمة الأصليّة.
5. لكن ثمة مفارقة استجدت بوعي "لايدي بي" كما الجماعة. إذ كان ثمن علبة الكريما الواحدة حوالي 7000 ل.ل طيلة ظهورها، وتوازيها خمس دولارات وفق سعر الصرف القديم (1500 ل.ل)، قبل 17 تشرين (أكتوبر). أما مؤخرًا، فوصلت قيمة العلبة إلى 16000 ل.ل، مع فارق هائل بالتضخم جعل المبلغ يساوي دولارين تقريبًا. ثم أضحت مقطوعة من الأسواق حتى كتابة هذه السطور، فقيل أن سعرها سيغدو بين 36 و50 ألف ليرة. والأمر يعني مبدئيًا أن المرطبان الذي طالما استرخى بوقاحة فوق رفوف خزائن معظم الناس، صار أغلى أضعافًا بالنسبة إلى غالبيّة المستهلكين الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحليّة، وأرخص النصف تقريبًا للأقلية القابضة بالدولار أو اليورو.
في منتصف كانون الماضي (ديسمبر)، وبينما كانت "لايدي بي" تتسوّق في السوپر- ماركت، لم تجد أيّ علبة من كريمتها الضروريّة لروحها وجسدها كما تتلذذ بالتوّهم. فنتيجة للبرمجة الشَرطيّة التي نمّتها بباطن فكرها، أضحت تشعر أنّ السائل الساخن مرّة، الفاتر إلى بارد مرّات، يخفف عنها ثقل الوقت البطيء، يساعدها كيّ ترتب أفكارها، يزيد من لذّة سيچارتها ويسدّ جوعها العابر بسعرات حرارية ضئيلة. هكذا، فيما تتجاهل ما تتعرف إليه حول أضرار الحبيبات المنتفخة ورفيقها المسحوق، وهذان اكتسبا "سحر" لحظيّة الذوبان عبر المعالجة الكيماوية المعاكسة بعنف للطبيعة.
تجاوزت "لايدي بي" إدمانها القديم بسلاسة. حفزّها أنّ اعتبرت التجربة القسرية بمثابة تحدّي كان لا بدّ منه من زمان، إبان السير نحو عيش صحي ويخفف الهدر إلى أدنى المعقول. تفهّت المسألة بمقارنتها مع جائحة كونية تضرب الأصقاع وتتطوّر، ومع جريمة نيترات أتت على %30 إلى %40 من بيروت. جعلها الاختبار غير المتوقع لا تنام، إنما هذه المرّة ليس بفعل جرعة الكافيين الزائدة والمتأخرة. بل لاسترجاعها شريط ذاكرتها بمقاربة مع تاريخ المدينة وانشغالها بالأسئلة: هل ننتبه كيف يثقب الاستهلاك وجداننا؟ هل يبدد انفجار 4 آب قسوتنا على بعضنا بعد أنّ تولدت هذه من شتّى أنواع التشرذم؟ وهل من حدود للفساد في جمهورية تحتضر بريعان عمر قرن؟