في جدلية الحب والثورة

بين الحب والثورة قواسم مشتركة، منها أن كليهما ينهض على توقٍ لتجاوز حالِ قائم إلى حالٍ مُشتهى. الحب، أياً كانت طبيعته، طاقة جوّانية تشع من إنسان وتصبو إلى تماهٍ في آخر، أو حاجة لجوجة لا تنصرف حتى تجد إشباعها في الآخر. والثورة، أياً كانت طبيعتها، خروج على وضع لم يعد مقبولاً، وفعلٌ يهدف إلى خلق وضع آخر.


ومنها أيضاً، أن كليهما يحتاج إلى قدر من الجرأة والشجاعة، فالثورة والحب بدءا من حركة التعبير الأولى يحتاج إلى التخلص من الخوف: "لا تجزعن فلست أول مغرم ...." (الشاب الظريف). فإن تجاوز المحب الجزع البدئي تابع في أمره حتى لو قاده إلى السقم: "تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب" (أبو النواس)، أو التلف: "قلبي يحدثني بأنك متلفي"(ابن الفارض)، أو الانتحار "سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا..." (الأصمعي)؛ وكذلك الثورة، يتردد المشارك بها في رفع قبضته وإطلاق الهتاف: حرية.. أو الله أكبر.. لكن ما إن يفعل حتى تأخذه الحمية فيهدم حواجز الخوف ويندفع نحو المزيد من الانخراط الثوري الذي قد يجعل منه ضحيةَ أذيةٍ تبدأ غالباً بالعنف اللفظي، لكن سرعان ما تتطور إلى عنف جسدي ينتهي به إلى المعتقل حيث قد يكون الموت في انتظاره.
بالإضافة، فالتشابه بين الحب والثورة يجعل من الأول ثورةً، على قياس الفرد الواقع فيه، ويجعل من الثانية حباً على قياس الجماعة المنخرطة فيها. وعليه لا شيء يمنع من الاستطراد حتى القول بأن الحب لا يكون حقيقياً إن لم يكن ثورة، ولا الثورة حقيقية إن لم تكن حباً. إن الثورة كامنة تخمد ثم تتفجر ولكنها لا تموت. تماماً كالحب، هو كامن وإن لم تشعر به، يوماً ما يحيا فيك وتحيا به.. واولئك الذين يتكلمون عن تجربتهم في الثورة بفخر واعتزاز لماذا يخجلون حين الحديث عن تجربتهم في الحب ؟.. ألم يكن الحب الملهم الأول لمحمود درويش حين تغني في الثورة وفي عيون ريتا التي عشقها بكل كيانه .. ألم يكن الحب أروع ما كتب غسان كنفاني في رسائله إلى غادة السمان.. الذي قال هل هناك ما هو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟ إذاً فالحب يجعلك تقوم بأشياء لم تكن تتخيل أن تقوم بها في يوم من الأيام، تماماً كما الثورة. أيضاً، نجد بين الحب والثورة قواسم مشتركة، منها أن كليهما ينهض على توقٍ لتجاوز حالِ قائم إلى حالٍ مُشتهى. الحب، أيا كانت طبيعته، طاقة جوّانية تشع من إنسان وتصبو إلى تماهٍ في آخر، أو حاجة لجوجة لا تنصرف حتى تجد إشباعها في الآخر. والثورة، أيا كانت طبيعتها، خروج على وضع لم يعد مقبولا، وفعلٌ يهدف إلى خلق وضع آخر. فان أصحاب الثورة غالباً ما يُداسون تحت أقدام تلك الثورات التي تصيبهم بإحباطات لا نهائية، وقاصمة أيضاً.. كما يداس العاشق تحت أقدام الحبيبة ونار الهجر، الحب والثورة وجهان لحلم واحد.. الحرية.. و لطالما كان هنالك خيط رفيع بين الحب والثورة ... فكلاهما فعل رومانسي وتوق وحلم في نيل واقتطاف ثمار الاجمل والأفضل، بالرغم من المصاعب والمشاكل الجمه التي قد تعيق طريقهما، إذا لا حب بدون ثوره ولا ثوره بدون حب . لذلك، في بلادنا الثورة والحب يعاملان كما لو كانا أفعالاً، أو بالأحرى أحداثاً جنونية منفلتة من كل عقال. ولذلك فإن الثورة "تنفجر" أو "تندلع" مثلما البركان دون خطة واضحة، وتسير على غير هدى خبط عشواء إلى أجلها المحتوم. الحب أيضاً حدث مفاجئ لا علاقة له بالعقل. وتختصر فكرته بـ "الوقوع في الحب" من النظرة الأولى، وهو اندفاعة للمشاعر بلا حساب، أن كليهما يحتاج إلى قدر من الجرأة والشجاعة .. تحن نتحاج إلى الحب كي نحتمل سماء هذا الوطن الملبدة بغيوم الكراهية والحقد ، وطائرات الموت التي لا تفارق سمائنا. نحتاج إلى الحب حتى نتمكن من متابعة نشرات الأخبار وتتبُع التعداد اليومي للشهداء وتقفي أثر المعتقلين في غياهب السجون، وكم من حبيب غاب او دفن تحت التراب. نحن نحتاج الحب كي نبقى نقدم الورود لأوطانٍ تدخر من قوتنا ثمن الرصاصةِ التي تقتلنا بها ، نحتاج إلى حبٍ ينتصر بنا على الاختناق والموت ، الحب الذي يمنحنا اليقين بأن ثمة فجراً سيزور قريباً بلادنا وأن الحق الذي حملناه بين أيدينا منتصرٌ لا محالة وأن ضريبة الدم الذي بذلناه كانت ثمناً عادلاً كي يأتي نهارٌ لا تُرى فيه الموت والزنازين ... إن معركتنا الأساسية هي مع الظلم الذي وضعنا أمام خيارين اقتلاع كرامتنا أو اقتلاعنا من أرضنا، ونجاحنا في هذه المعركة مرتبط بنجاحنا في العمل معاً، وهذا بدوره مرتبط بنجاحنا في الحرص على حب بعضنا البعض وبالصراحة والتسامح والتراحم فيما بيننا مهما اختلفت الطباع وتباينت وجهات النظر .. في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءاً لا ينقسم عن الخبز والماء ونبض القلب. الثورة تجربة غالية إن انتصرَت أو انهزمَت (الانهزام والانتصار زيف كبير) فهي تعلمنا أشياء لم نكن لنتعلمها لولاها. تمامًا كالحب، تجربة تعلمك عن الحياة أشياء لن تنساها .. ان المفكر والاديب هو بوصلة الثورة والمقاتلين هم مدفعها.. والثورة بحاجة إلى بوصلة وإلى مدفع في آن واحد .. ويتقدّم وعي الجماهير بالثورة... وبالوعي وبالحب ... وبين الوعي والثورة والحب ، علاقة جدليّة واضحة .. لأن حركة الوعي المحصِّن للثورة حركةٌ قاعديةٌ المرتكزِ رأسيةُ الاتجاه قابلةٌ للتعطيل ككل حركة لكنها رافضةٌ للتوقف والنكوص وبدون الحب هل تنتصر الثورة ؟
يسود الموت والصمت وتبقى الثورة والحب.....