أحاول في ظلال هذه المناسبة الأليمة، التي حرمتنا من طاقةٍ مبدعةٍ، وقدرةٍ خلاقةٍ، وعزيمةٍ جبارةٍ، وعاملٍ لا يتعبُ، ومجاهدٍ لا يمل، وهمةٍ لا تفتر، أن أشير إلى بعض الحوادث التي جمعتني به وعرفتني عليه خلال سني الدراسة في جامعة بيزيت، وقد أحزنني كثيراً اغتياله، وآلمني قتله، وحَزَّ في نفسي كثيراً طريقة الوصول إليه والتعرف عليه، وهو الذي أعيا الإسرائيليين بحثاً، وأعجزهم ملاحقةً، وأصابهم بالخبل والجنون جهلاً بمكانه، واضطراباً في المعلومات عنه، حتى غدا الوصول إليه وقتله حلماً يراود رئيس حكومتهم الأسبق اسحق رابين، الذي ما فتئ يوبخ أجهزته الأمنية وقيادته العسكرية، ويعيب عليها عجزها وضعفها وتقصيرها وفشلها.
قلةٌ هم أولئك الذين تنبأوا بمستقبل يحيى عياش إبان دراسته في جامعة بيرزيت، وقليلٌ هم الذين كانوا يعرفون كنه هذه الشاب الصامت الرزين، البسيط المغمور، المتلفع بثيابه البسيطة، والمخبوء بأسماله العادية، المنطوي على نفسه، والهادئ في طبعه، والمتأمل في صمته، والعنيد في رأيه، إذ لم يكن يميزه عن بقية الطلاب شئ، ولا يعير الانتباه إلا بورعه وزهده، وتواضعه وميله للبعد عن بقع الضوء اللافتة، حيث لم يكن يتقدم الصفوف، ولم يكن يقود الجموع، ولا يحب أن يشار إليه بالبنان تشريفاً أو تكريماً، ويكاد لا يعلو صوته صاخباً، ولا يتمعر وجهه غاضباً، بل تسكن شفتيه البسمةُ الصامتةُ، والهدوءُ الواعي، والتفكيرُ العميق.
يوماً في ربيع عام 1985 رأيته في مسجد بلدة بيرزيت، الذي كنا فيه نلتقي ونجتمع، ونقيم الليل ونصلي، يلهث ويحمل حذاءه تحت إبطه، وقد بدا عليه التعب والإعياء، فاستوقفته سائلاً إياه، وقد كنتُ يومها رئيساً للكتلة الإسلامية في الجامعة، مستغرباً تعبه ومستنكراً لهاثه، فقال لي بثباتٍ وبكلماتٍ لا أنساها ما حييتُ، وقد حفظتها ونقلتها عنه قبل أن ينخرط في مقاومته، ويُعرفُ اسمه، ويشتهر عمله، ويسمو بين الأمم نجمه، "أنت أصدرتَ لنا أمراً بالتجمع في المسجد، فما كان لي أن أتأخرَ عن الاستجابة والالتحاق بالاجتماع".
علمت بعدها منه ومن إخوانه، أنه حضر من بلدة أبي قش القريبة من بلدة بيرزيت مشياً على الأقدام، فقطع المسافة بينهما ركضاً وهرولةً حتى وصل إلى المسجد متعباً مرهقاً، وهو النحيل الجسد الضعيف البنية، منذ ذلك اليوم ما نسيتُ وجهه، ولا غاب عني شكله، بل أخذت أبحث عنه دوماً بين جموع الطلاب، إذ رأيت فيه مثال الجندي الصادق، الذي يطيع الأمر ولا يتأخر، وينفذ التكليف ولا يتردد.
سألتُ عنه وتتبعت أخباره دون قصدٍ مني، إذ لم يكن يدفعني لذلك غير مسؤوليتي في الكتلة الإسلامية، فعرفت أنه يدرس الهندسة، وأنه مجدٌ في دراسته، ومجتهدٌ في دروسه، وأنه يسكن في بلدة أبي قش القريبة من بيزريت، وعرفت فيما بعد أنه يسكن قريباً إلى أحد طلاب مخيم جباليا بغزة، الذي كان له دورٌ كبير بعد ذلك في إيوائه وإخفائه، إذ أقام في بيته حتى يوم استشهاده، وخلال إقامته حملت زوجته وشاع خبر حملها، فجن جنون الإسرائيليين واضطربوا، وصعق لهول الخبر، إذ كيف تحمل منه زوجته وهو المطارد البعيد عن الأنظار، الذي لا يعرف أحدٌ عنه شيئاً رغم كل حملات المطاردة والبحث والتقصي.
كنت أتابع وإخواني نشاط طلاب وطالبات الكتلة الإسلامية في بلدة أبي قش، بصفتي رئيساً لها وأميناً عليها، فكنت أجد يحيى مع كثيرٍ من الطلاب غيره، يجلس على الأرض، مكباً على بعض الأوراق المقواة، التي تحمل شعارات الكتلة الإسلامية في الجامعة، يهيئها لترفع، ويسوي من وضعها لتكون لافتةً مميزة، وقد رأيته مراتٍ عديدةً يحمل بعض هذه الأوراق ويثبتها بنفسه، أو يتعاون مع زملائه عليها، فيما يبدو عليه الفرح أنه يعمل ويجهد، ويشارك ويساهم، شأنه شأن أغلب طلاب وطالبات الكتلة، الذين كانوا يبدعون في عطاءاتهم ومساهماتهم اليومية، ما يجعلني دوماً أشعر بفخر الانتماء إلى هذه الكتلة الإسلامية الرائدة، في ظل طلابها المبدعين الناجحين، الذين نرفع بهم الرأس بهم مباهاةً وفخراً، ونتيه معهم سعادةً وفرحاً.
أذكر يوم استشهاد الأخوين الكريمين جواد أبو سلمية وصائب ذهب في العام 1986، كيف خرجت جامعة بيرزيت بكل طلابها وأطيافها الفكرية والتنظيمية، تؤبن طالبي الكتلة الإسلامية الشهيدين، وتزف إلى نفسها نبأ استشهادهما، وإن اختلفنا مع حركة فتح حول انتماء أحدهما، فكان يحيى عياش من أوائل الذين تلقوا الخبر، فالتحق صامتاً بالجموع التي التقت في كافتيريا الجامعة، وكان الخبر قد تناهى إلى أسماعنا بينما كنا نصلي العصر جماعةً، فاستعرت الحماسة في القلوب، واندفع الطلاب كالليوث، كلٌ يريد أن يثأر وينتقم، أو أن يلحق بالشهيدين الذين كانا أول شهداء الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت، وكان لشهادتهما دورٌ كبير في تأطير العمل الوطني الطلابي في الجامعة.
يحيى عياش الطالب النجيب النشط، المتفوق المبدع النهم، الغيور على قضيته الجلد، المهندس الكهربائي المتقد، لم يكن ثعلباً كما وصفه ضباط العدو، بل كان مؤمناً بقضيته، مخلصاً لوطنه، صادقاً في مقاومته، متطلعاً إلى النصر والتحرير.
أدرك يحيى أنه قادرٌ على المساهمة من خلف الجدران، وعلى العمل من داخل المعامل وبين قارورات المختبرات، وشعر أنه قادرٌ على الفعل الموجع والعمل المبدع فآثر الالتفات إلى التصنيع والإعداد، وتجهيز العبوات وصناعة المتفجرات، وقد علم أن هذا السلاح موجعٌ ومؤلمٌ، وأن العدو سيصرخ منه وسيتألم، فانطلق سابقاً الكل، ومدهشاً الجميع، ومخيفاً العدو، ودوى اسمه مع كل انفجارٍ، وصدح صوته مع كل عمليةٍ ينفذها المقاومون، وباتت متفجراته تصول وتجول في كل أرجاء فلسطين، وتترك آثارها في كل مكانٍ، حتى أرعب العدو وأخافه، وأقلقه وأزعجه، وتمنى له الموت لينجو منه ويخلص من فعله.
إنه لشرفٌ لي عظيم أنني كنتُ أحد الذين عاصروا يحيى عياش مرحلةً قصيرةً من عمره، وفترةً من حياته، ولا غرو أنني كنتُ واحداً ممن جهلوا هذا الساكن بين جنبيه، الثائر بأصغريه، ولكني لا زلت أذكر صمته المهيب، ونظراته العميقة، وهدوءه المستفز، وكأنه كان يخفي قدراً سيكتب، وبركاناً سينفجر، فطوبى لك أبا البراء في ذكرى شهادتك الخامسة والعشرين، حيث أنت اليوم.
هنيئاً لك يحيى المجد الذي حزتَ، والشرف الذي نلتَ، فقد كنتَ رائداً وما زلتَ، وفريقاً قاد الأمة ورفع اسمها، بعث فيها الحياة من جديد، وأعاد الأمل إلى قلوب أبنائها، الذين حفظوا اسمك وأبقوا على رسمك، نجماً في السماء، وعلماً في الحياة، وفرطاً سابقاً الأمة إلى جنان الخلد.