لماذا لا يستعاد المال المنهوب، ويبدأ التقشّف من فوق؟


لم يكن ما جرى يوميْ الأحد الفائتين من تحركات شعبية في بيروت ومناطق لبنانية أخرى، سوى عيّنة لما يمكن أن يحدث من جرّاء تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والضائقة المعيشية. ويؤكد شمول هذه التحركات مناطق عديدة، أن الجوع والفقر لا دين له ولا طائفة أو مذهب، وكذلك الثراء الفاحش والفساد. فاللبنانيون بمعظمهم، وبخاصة الطبقات الشعبية، ينتابهم القلق المترافق مع الشعور بعجز الطبقة السلطوية وسياساتها المتبعة، عن إيجاد الحلول لحاضرهم ومستقبل أبنائهم. فهم يشهدون يوميّاً إقفال مؤسسات جديدة متوسطة وصغيرة، ويلمسون تقلّباً وارتفاعاً بأسعار سلع ضرورية، وببدء انخفاض سعر الليرة حيال الدولار الأميركي. ويرون أن في الوقت الذي يتزايد فيه عدد البالغين سنّ العمل سنوياً، المتخرّجين من الجامعات والثانويات والمهنيات، تتناقص فيه فرص العمل التي تملي على أفضل الكفاءات والطاقات الهجرة القسرية. وما دام الاقتصاد الللبناني ريعيّاً وتابعاً لمراكز الرأسمال العالمي وصناديقه ووصفاته، فلا خروج من هذه الأزمات.

وإذا ما كان السبب الأساسي لاستمرارها، يكمن في سياسات السلطات المتعاقبة منذ 30 سنة، والتي جعلت الاقتصاد اللبناني الريعي، أكثر تبعية لقوى الرأسمال الخارجي ووصفات صندوق النقد الدولي، فإن استمرارها في السنوات الأخيرة أدّى إلى تسريع الانحدار اقتصاديّاً وماليّاً وفي الوضع المعيشي، خصوصاً لذوي العمل المأجور والطبقة الوسطى.


ورغم كثرة التحدّث عن الإصلاح ومحاربة الفساد، لم تُحل مشكلة. ولم يُحاسب فاسد واحد. ويجري الحديث عن اتخاذ تدابير غير شعبية، لتخفيض عجز موازنة 2020، بتحميل الطبقات الشعبية أكلاف أزمة هم ضحيتها وجعلهم أيضاً ضحية ترميمها. ولم يخطر في بال المسؤولين استعادة المال العام المسروق الذي يبلغ أضعاف أضعاف عجز الخزينة لسنوات طويلة. وإذا كان لبنان ليس مُفلساً بل منهوباً، فلماذا الصمت عن الناهبين؟ ولماذا لا يُفرض على حيتان المال في المصارف وكبار الأثرياء الذين راكموا أرباحهم من استغلال الشعب، أن يُسهموا بتخفيض بل إطفاء هذا العجز؟ فلم يعد بوسع الناس تحمّل أوجاع أكبر، وديون على لبنان أكثر، سيدفعها اللبنانيون وأحفادهم والأجيال الجديدة.


فلم يتركوا للناس مجالاً واحداً ليتنفّسوا. فقد رفعوا خلسة، فاتورة الكهرباء في بيروت، برفع مائة كيلو واط من الشطر الأول المنخفض سعره، ومائتي كيلو واط من الشطر الثاني، وضمّهم إلى الشطر العالي، فتزداد فاتورة الكهرباء الشهرية حوالي 35%. عدا ما تتضمّنه هذه الفاتورة، وكذلك فاتورة الهاتف والمياه، من أصناف رسوم، تزداد عاماً بعد آخر. ويبشّر المسؤولون الناس، بأن من ضمن تدابير تخفيض العجز، زيادة ساعات تقنين الكهرباء، بعد 30 سنة على توقّف الحرب الأهلية. هذا إضافة إلى التلويح بزيادة أسعار المحروقات.


وتأتي مشكلة قانون الايجارات الجديد، لتفرض تهجير من عجزت الحرب الأهلية عن تهجيرهم من بيروت والمدن، وفي ظلّ غياب خطة إسكانية لا حلّ لمشكلة السكن بدونها. ومع أن صندوق مساعدة المستأجرين القدامى لم ينشأ بعد، ثمة قضاة يحكمون على المستأجر بالإخلاء. وجرى توقّف القروض السكنية التي تنعكس سلباً خصوصاً على الشباب وبناء مستقبلهم.


وعلى رغم الحديث عن التدابير غير الشعبية، نجد أن عادات السلطويين هي هي... من تشكيل الوفود الفضفاضة والفنادق الفخمة المكلفة جدّاً للخزينة المنهوبة، إلى صفقات في كلّ مشروع. فالتدابير غير الشعبية هي على الناس الذين هم ضحايا سياساتهم وفسادهم، ولا تطال تحاصصاتهم ومحميّاتهم. فتبقى الخزينة سلّة مثقوبة، ويحتمون بطوائفهم. فلماذا لا تطال التدابير غير الشعبية النواب والوزراء ونفقات الرئاسات وأصحاب المخصّصات الكبيرة والمصارف؟


ألا يجب أن يبدأوا بأنفسهم...؟ّ!
لم ينسَ الناس الرئيس اليساري السابق للأوروغواي، خوسيه موهيكا، الذي انتهت ولايته منذ سنتين تقريباً. فقد اقتطع من مخصّصه كرئيس، المبلغ الذي كان يعيش فيه قبل رئاسته، وحوّل الباقي إلى جمعيات خيرية، وبقي على تنقله في سيارة فولزفاغن يمتلكها قبل رئاسته، ويتنقّل بدون طبل وزمر. كما شاهد الناس على الشاشات، رئيسة كرواتيا، كوليندا غربار كيتاروفيتش التي اختارت الانتقال إلى سوتشي ـ روسيا في القطار لأنه أقلّ كلفة من الطائرة لتشجيع فريق بلدها لكرة القدم في مباريات كأس العالم.
فلماذا لا يبدأ التقشّف من فوق ويُستعاد المال المنهوب؟!!