وبدلاً من أن تكون ثمار الاستقلال لكلّ الطبقات الشعبية، جعلوها في مصلحة تراكم ثروات الفئة العليا من البرجوازية وهي قلّة من اللبنانيين، وإطلاق يدها في استغلال عمّالنا وفلاحينا ومزارعينا والفئات الشعبية المتوسطة في مجتمعنا. ممّا أبقى الاستقلال ونكهته الوطنية وطعم ثماره، بعيداً عن شعور الناس العاديين، الذين أملوا أن يحسّن ظروف معيشتهم ويُوفّر الضمانات الاجتماعية لهم .. بالطبع لم يكن الاستقلال قبلاً، ولا اليوم، هو المسؤول عن ذلك، وعمّا حلّ بلبنان من تدهور وانهيار وكوارث الآن. بل كان مثله مثل الوطن والشعب أي ضحية النظام الطائفي التحاصصيّ المتخلّف الذي يعود الى ما قبل الدولة الحديثة، وطبقة سلطوية، تنظر الى كل شيء، من الدولة الى الوطن الى المجتمع، من زاوية مصالحها الخاصة والفئوية. لذلك فآليات هذا النظام وممارسات طبقته السلطوية عجزت وتعجز عن بناء الوطن، وفشلت في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. فبقي مضمون الاستقلال في حالة ضمور. ومن غرائب الأمور، اعتماد هذه الطبقة معياراً طائفياً حتى في تحديد رجال الاستقال، على قاعدة التوازن الطائفي، والإحجام عن الإعلان عن رجال الاستقلال الفعليين مثل القائد فرج الله الحلو، لأنه يمثل وطناً لا طائفة بعينها.
واستمرّ أهل الحكم وفقاً لنظامهم الطائفي، في توزيع الدولة وإدارتها ومؤسساتها وسلطتها، حصصاً بين زعامات الطوائف. فثبتّوا نظاماً على مقاسهم ولهم، وليس نظاماً للشعب والوطن. وجعلوا الدولة فريسة يتناهشونها، ويتنافسون على المواقع والصفقات، ووصل حرصهم على نظامهم وفسادهم الى اهتراء النظام والتمسك بتحنيط أسسه وبنيته ودولته، وكأن الزمن توقف عندها. ولم يعد للسلطة أي دور إلاّ قمع الاحتجاجات الشعبية على الحالة المزرية، ومطالبة انتفاضة ١٧ تشرين التي شملت كل لبنان بالتغيير، متجاوزة حدود الطوائف والمناطق بوحدة شعاراتها ومطالبها الأساسية التي تمثلّت بإسقاط النظام الطائفي وتحقيق التغيير، لإنقاذ شعبنا وبلدنا من حالة الانهيار والكوارث. كما طرحت حلولاً عديدة تبدأ بتشكيل حكومة من خارج المنظومة السلطوية وبصلاحيات استثنائية، واستعادة المال المنهوب وقطع دابر الفساد.
ومن مساوىء هذا النظام التحاصصي وتناقضات أطرافه، انه يجعل علاقة زعيم كل طائفة بمرجعية وسلطة خارجية ليستقوي بها داخلياً، فتصبح قوّة هذه العلاقة أكثر تأثيراً من عوامل الوضع الداخلي. ويتحوّل لبنان الى دولة قاصرة، بحاجة لوساطات خارجية، يغيب فيها الاهتمام بمعالجة المشكلات والقضايا الداخلية، ويَضيع الاستقلال والسيادة الوطنية في معمعة تداخل الصراعات الداخلية مع الاقليمية والدولية.
وإذا كان من غير الممكن أن يكون لبنان بعيداً عن العصر وعولمة الصلات والاتصالات والعلاقات بين الامم والقارات، ولا أن يكون محايداً إزاء القضايا العربية وحيال المخطط الأميركي الصهيوني الذي يستهدف المنطقة ولبنان، إلا أنّه من حقه أن يكون دولة مستقلّة في تحديد سياسته وقراراته ومستقبل أبنائه. فأين نحن من ذلك؟ وأين هي دولة الاستقلال؟ بل أين هو الوطن؟ وإلى أين تأخذ الطبقة السلطوية البلد، الذي أصبح فيه تشكيل الحكومة إنجازاً، واجراء انتخابات نيابية أو رئاسية ، مأثرة تاريخية؟
وليس تجنيّاً القول إنّ عِقَد تشكيل الحكومة الآن هي كما قبلاً، ترتبط بالأحجام وحقائب الطوائف، وهي من طينة المنظومة السلطوية نفسها، ولا يخفيها إلباسها قناعاً. ويُضاف إليها تأثير الوضع الخارجي وبخاصة العلاقة بين إيران والإدارة الأميركية ووضع المنطقة، ارتباطاً بنتائج الانتخابات الرئاسية فيها. وتنعكس هذه المماطلة والتعثر بتشكيل الحكومة، مزيداً من اهمال الأوضاع والأزمات الداخلية المتفاقمة، من بينها أسر شهداء انفجار المرفأ، وإصلاح المساكن المهدّمة والمتضررة، خصوصاً اننا في بداية فصل الأمطار، واعلان الاسباب الفعلية لانفجار المرفأ.
وتبقى قضية وقف الانهيار وانقاذ بلدنا وشعبنا، واستعادة المال المنهوب، المهمّة الملحّة على طريق النضال الشعبي وتطوير انتفاضة ١٧ تشرين، إلى بناء دولة الاستقلال، الدولة الديمقراطية العلمانية الحديثة والقادرة على حماية لبنان وثروته البحرية، ضدّ مطامع العدو الإسرائيلي وتهديداته، وضد الرضوخ للضغوط الاميركية ومنها فرض العقوبات، الرامية الى جرّ لبنان الى تنازلات في ترسيم الحدود، وفي الموقف من صفقة القرن والتطبيع مع العدو الاسرائيلي. أمّا محاسبة الفاسدين، فهي مسألة ملحّة وضرورية، وهي مهمّة داخلية تُناط باستقلالية القضاء، وبدور الشعب القادر على المحاسبة وعلى صنع التغيير.
لن يتوههج الاستقلال وعيده إلاّ ببناء دولة الاستقلال.
ضمور الاستقلال لاهتراء النظام وفشل سلطته
يمرّ عيد الاستقلال هذا العام، ونحن على مقربة منه الآن، كئيباً وفاقداً بهجة العيد، والكثير من معانيه الوطنية. فهذا الاستقلال الذي حقّقه شعبنا بنضاله وبوحدة قواه في المؤتمر الوطني عام 1943، الذي كان للحزب الشيوعي اللبناني وبخاصة قائده فرج الله الحلو، دوراً بارزاً وجامعاً للوطنيين فيه، وفي قيادة التحرك الشعبي الكبير الذي عمَّ لبنان، لم تقم الطبقة السلطوية بتعزيزه في اعتماد سياسة متواصلة لتطوير اقتصاد وطني منتج ومتوازن، وإنماء شامل مناطقياً واجتماعياً، وسياسة مالية تستجيب لمقتضيات نهج وطني واجتماعي شامل.
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.