ويكشف ذلك عن مدى الخلل البنيوي في مرتكزات هذا النظام، وعن فشل سياسة ودور طبقته السلطوية. فمع الحرب الروسية مع اوكرانيا وحلف الناتو مثلاً، عادت الطوابير فوراً امام محطات الوقود، بسبب اخفاء مواد وسلع ضرورية مثل البنزين والمازوت والغاز المنزلي، والزيت وربما لاحقاً القمح والطحين، ليس لنقص في وجود هذه المواد، وانما بغرض الربح السريع وغير المشروع، انتظاراً لارتفاع الاسعار. فتضاؤل دور الدولة في منع هذه الظاهرة المتكررة، ناجم عن الخلل المذكور في بنيتها، وعن تواطؤ النافذين مع كبار التجار والمستوردين في احتكار المواد المذكورة.
ولا يقتصر تلاعب السلطويين بسعر الدولار والليرة، او باخفاء مواد يحتاجها الناس، بل يمتد تواطؤهم الى الدواء والصفقات وهدر المال العام، ويطال قضايا اساسية مثل الانتخابات النيابية والتذكر المتأخر جداً "للميغاسنتر"، ومسألة ترسيم الحدود البحرية، والتحقيق الجنائي. والكابتال كونترول وغيره... ورغم ما يتركه كل ذلك من تأثير سلبي على حياة الناس وقدرتهم على الاستمرار، نجد أن الاطراف السلطوية تركز اهتمامها على مصالحها الخاصة، متناسية المصالح العامة للشعب وللوطن، ومتمسكة بنظامها الطائفي وبتجديد مواقعها السلطوية، وبحماية فسادها. ومع ان بعض السلطويين يصرحون احياناً بانهم مع اقامة دولة مدنية لا طائفية وحتى علمانية، ليظهروا للناس خصوصاً عشية الانتخابات النيابية، اذا ما جرت، إنهم مهتمون بمعالجة الازمات واسبابها، الا أن ممارساتهم مناقضة لذلك. فهم يلجأون الى كل اساليب التبرير والاحتيال، لاخفاء فشلهم. ويأتي تأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية في المقدمة. فكلما انكشف فشلهم وعجزهم وتصاعدت النقمة الشعبية ضدهم، يستخدمون سلاح الطائفية... إلم يشعلوا الحرب الاهلية للهروب من خيار اصلاحي وتغييري يلبي المطالب الشعبية؟ هم يدركون دور الطائفية في طمس الجوهر الطبقي الاجتماعي لسياسات السلطة وزعاماتها المتشاركين مع قلة من المحتكرين وميليشيا المصارف الذين نهبوا معاً اموال المودعين والمال العام، واغرقوا لبنان بمديونية تفوق المائة مليار دولار. ولتغطية دورهم في كل ذلك يتوسلون الانقسام والصراع الطائفي لتشويه وعي الشعب الذي يقلقهم. فيفتعلون مواقف واحداث دموية احياناً تحقق خدمة ومصلحة متبادلة بين زعامات الطوائف المتناقضة. ألم تؤد احداث الطيونة لتقوية نفوذ كل طرف في طائفته؟ ألم يستخدم خرق الطائرات الحربية الاسرائيلية جدار الصوت فوق مباني العاصمة، كرد على مُسيّرة ارسلها حزب الله الى اجواء فلسطين المحتلة لآثارة نقاشات وانقسامات طائفية تحت عنوان تفرد حزب الله، وبدون ادانة الخرق الاسرائيلي المتكرر لاجواء لبنان؟
ليس من مصلحة الاطراف السلطوية ان تكون قضايا الشعب ومعيشته الاجتماعية، وقضية بناء دولة ديمقراطية حديثة توحد الشعب والوطن، معياراً في خيار الناس الانتخابي. فالطائفية التي كانت وما زالت سلماً لصعودهم الى السلطة يعتمدونها اساساً في ممارساتهم وفي القوانين الانتخابية، ويقسمون البلد الى دوائر كثيرة يجري تفصيلها على مقاساتهم، وتتشكل معظمها من اغلبية من طائفة واحدة. هذا عدا اشكال الضغوط والتدخل والمال الانتخابي لمنع التمثيل الصحيح.
لقد ذاق شعبنا مرارة النظام الطائفي التحاصصي وصراعاته والحروب التي يستدرجها. وإن اعادة طغيان الطبقة السلطوية نفسها في المجلس النيابي سيبقي المجلس في واد والشعب وقضاياه في واد آخر. فبلدنا الذي يضم 18 طائفة هو احوج ما يكون الى قانون انتخاب يوحد ابناءه في نظام نسبي ولا طائفي وفي دائرة وطنية، لجعل كل الشعب يتشارك معا في انتخاب كل البرلمان الذي يمثل كل الامة. ليستقيم التمثيل الشعبي ولازالة الحواجز والانقسامات العامودية بين اللبنانيين ولبناء الدولة الحديثة والوطن السيد. ويمكن التأكيد ان النقمة الشعبية الواسعة التي تجلت في انتفاضة 17 تشرين، وشملت كل لبنان ستتعمق وتتصاعد طالما بقيت اسبابها.