استدعاءٌ جديد تبلغت به شادن فقيه من المحكمة العسكرية لمثولها في حزيران/يونيو 2022، على خلفية اتهامها بـ"المسّ بسمعة المديرية العامة لقوى الأمن والتحقير".
وتعود تفاصيل هذه القضية إلى شهر أيار/مايو 2021، حين اتصلت شادن بالرقم 112، وهو رقم الطوارئ في قوى الأمن الداخلي، لتسأل العناصر الأمنية كيف يمكنها الحصول على الفوط الصحية في ظل الحجر الصحي والقيود على الحركة بسبب فيروس كورونا.
على خلفية هذا الاتصال، استدعى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية الستاند آب كوميديان في السابع من أيار/مايو الماضي.
نشرت شادن عبر صفحتها على "إنستغرام" مقطع فيديو قالت فيه: "يا جماعة أنا مطلوبة على المحكمة العسكرية، أنا مدنية سوف أتحاكم عسكرياً، بتهمة المسّ بسمعة المديرية العامة لقوى الأمن والتحقير، بسبب الفيديو الذي نشرته عندما اتصلت بقوى الأمن أطلب فيه الخروج لأن دورتي الشهرية بدأت وأحتاج إلى فوط صحية". ولدى خروجها من التحقيق أشارت أنهم "تعاملوا معها بلطف، وسألوها إذا كانت ترضى بتوقيع تعهد لكنها رفضت". بينما تجمّع متضامنون معها رافعين فوطاً صحيّة في وجه هذا التحقيق.
في حالة أخرى من القمع التي تمارسه المحكمة العسكرية، أعطى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي الاشارة باستدعاء الصحافي في جريدة "الاخبار" رضوان مرتضى الى فرع التحقيق في مديرية المخابرات بجرم تضليل التحقيق القضائي في جريمة المرفأ والاساءة للجيش اللبناني واختلاق الجرائم بحق المؤسسة العسكرية وعدة جرائم اخرى تمس بهيبة الدولة. ورد مرتضى على طلب استدعائه بتغريدة قال فيها: "زعم عناصر المخابرات أنّ لديهم إشارة قضائية من مدعي عام التمييز. سألت عنها، فتبين أنّها ورقة من مديرية المخابرات لم يُذكر فيها أي قاضي إنما طلبٌ فوري بذهابي إلى فرع التحقيق في وزارة الدفاع. ولدى مراجعة مدعي عام التمييز، تبين أنه لم يعطهم أي إشارة. وأن هناك إشارة من مفوض الحكومة."
توازياً، قال مرتضى في تصريح تلفزيوني إنه متواجد في تلفزيون "الجديد" في حال أراد الجيش توقيفه، وأكد أنه يقوم بعمله، وكل لبناني من حقه معرفة مسؤولية قيادة الجيش اللبناني الحالية والسابقة في حادثة إنفجار المرفأ. وروى أن دورية من مخابرات الجيش توجهت إلى منزله ودعته إلى الحضور فوراً إلى التحقيق، مضيفاً أنه لم يرى إشارة قضائية على ورقة إستدعائه وإنما توقيع مديرية المخابرات، وأشار إلى أن قائد الجيش يخالف القانون مرة جديدة بعد منعه من دخول المحكمة العسكرية. وتابع: "لن يسكتني أحد".
وكان مرتضى تناول على حسابه عبر "توتير" قائد الجيش بعد منعه من دخول المحكمة العسكرية حيث قال: "لقد ارتكب الضابط عون حماقة"، واصفًا القرار بحقه بأنه "قمعي ومافيوي وعشائري".
هذه الحالات التي نشهدها ليست سوا تعبيراً عن مدى إنعدام مبدأ حرية الرأي والتعبير. لذلك لا بد اليوم من التخلص من هذه المحكة العسكرية المنتهكة لحقوق المدنيين والصحافيين وغيرهم.
إن المحاكم العسكرية من المحاكم الاستثنائية التي تتألّف من قضاة وعسكريين، تتناول البت في جرائم خاصة منها الجرائم الخاصة بالعسكريين وجرائم الإرهاب إلخ..... والمحاكم العسكرية لا تلتزم بأصول المحاكمات المعتمدة في المحاكم العادية، فالمحكمة العسكرية مؤلّفة من رئيس ومستشارين من بينهم قاضٍ واحد من أصل 5 قضاة وضباط يعاونوه خلال المحاكمة. وتُصدر المحكمة العسكرية أحكامها خلافاً للقواعد المعتمدة في المحاكم العادية، كما أنَّ هناك عدم مراعاة للأصول المعتمدة في المحاكمات. فضلاً عن أنّ هيئة المحكمة مؤلّفة من رئيس وأعضاء، حيث الرّئيس هو ضابطٌ مكلفٌ برئاسة المحكمة وبالتالي ليس قاضياً، كما أنَّ الأعضاء ليسوا جميعهم من القضاة؛ فهناك قاضٍ واحد من أصل خمسة يُؤلّفون الهيئة، والباقي ضباط مكلّفون بهذه المهمة من دون أن يكونوا مجازين إلزامياً في الحقوق.
أضف الى أن مفهوم القضاء العسكري يُخالف من جهةٍ أُولى، وعلى الصّعيد الدّاخلي، مبدأ مساواة المواطنين أمام المحاكم المكرّس في الدّستور اللبناني - المادة 7 منه -، لاسيّما لناحية مقاضاة المدنيين أمام القضاء العسكري. كما يُخالف (مفهوم المحكمة العسكرية) مبدأ التقاضي على درجتين. فضلاً عن أنَّ الأحكام لدى المحكمة العسكرية تصدر من دون أيّ تعليل، وهذا كلّه يتعارض مع الحق بالمحاكمة العادلة Fair Justice المعتمد دولياً. ويُخالف من جهةٍ ثانية، وعلى الصّعيد الدّولي، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدّة وتوصيات لجان حقوق الإنسان التابعة لها.
إذ تنصُّ المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي ترعى الحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية وفي المحاكمة العادلة على ما حرفيّته " فلكل فردٍ الحق في أن يحاكم أمام المحاكم أو الهيئات القضائية العادية التي تطبق الاجراءات القانونية المقرّرة.
كما تناول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان جملة مبادئ تتعارض مع مفهوم القضاء العسكري، ومنها تعداداً لا حصراً:
- مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص في المادة 7 (من الإعلان)، والذي جاء فيه "فالناس جميعاً سواء أمام القانون وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.
- الحق في المحاكمة أمام محكمة مختصة ومشكّلة تشكيلاً نظامياً والحق في محاكمة عادلة، المنصوص عنه في المادة 10 من الإعلان المذكور، بما حرفيّته: أنّ لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظراً منصفاً وعلنياً للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أي تهمة جزائية توجّه إليه.
- الحق في وسائل الإنصاف العدلي، المنصوص عنه في المادة 8 من الإعلان، والتي تنصُّ على ما يلي: أنَّ لكلِّ شخصٍ حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصّة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه الدستور أو القانون.
- حق كلّ مواطنٍ في المحاكمة أمام المحاكم العادية، المادة 5 من الإعلان أعلاه (المتعلّقة بمبدأ استقلالية السلطة القضائية)، والتي تنصُّ: على أنّ لكل فرد الحق في أن يُحاكم أمام المحاكم العادية او الهيئات القضائية التي تُطبق الإجراءات القانونية المقرّة ولا يجوز إنشاء هيئات قضائية لا تُطبق الإجراءات القانونية المقرّة حسب الأصول والخاصة بالتدابير القضائية لتنتزع الولاية القضائية التي تتمتع بها المحاكم العادية أو الهيئات القضائية.
ويُخالف مفهوم القضاء العسكري من جهةٍ ثالثة وأخيرة، توصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادرة في الدورة الحادية والستين البند ٦٧ ب، التي اعتبرت في أحد بنود جدول أعمالها الخاص بتعزيـز حقـوق الإنـسان وحمايتـها – الفقرة الخاصة بالقضاء العسكري في سياق محاكمة المدنيين والانتهاكات الجسيمة لحقــوق الإنسـان، بأنّه في جميع الظروف ينبغي أن يحلّ اختصاص المحاكم العادية محل المحاكم العسكرية فيما يتعلق بإجراء تحقيقات في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان مثل حالات الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري والتعذيب وملاحقة المتهمين بارتكاب الجرائم وملاحقتهم.
ولمّا كان يُستنتج من كل ما تقدّم، لاسيّما من المواثيق الدولية والدستورية والقانونية، كما ومن مبادئ العدل والإنصاف، حجم المخالفات والتجاوزات التي يُشكّلها القضاء العسكري للبنان والمتقاضين فيه على حدٍّ سواء، والتي يُمكن أنْ نختصرها بما يلي:
- مخالفة الإختصاص الموضوعي والشخصي، بما في ذلك مسألة التحقيق في الادعاءات بحدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، يُزعم أنها ارتكبت على أيدي أفراد عسكريين وتقديم مرتكبيها للمحاكمة، فالمبدأ 29ينص على أنّه يجب أن يقتصر إختصاص المحاكم العسكرية على المخالفات العسكرية تحديداً التي يرتكبها العسكريون باستثناء انتهاكات حقوق الإنسان التي تقع ضمن اختصاص المحاكم الداخلية العادية أو عند الإقتضاء ضمن اختصاص محكمة جنائية دولية في حالة الجرائم الجسيمة التي تندرج في إطار القانون الدولي.
- مخالفة مبدأي الكفاءة والمهنية،إذ أنَّ غالبية المحاكم العسكرية يكون رئيسها والأعضاء المعينون فيها غير مجازين في الحقوق، وهذا يتعارض مع المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان السّابق الذّكر (المتعلّق بمبدأ استقلالية السلطة القضائية)، حيث جاء فيه:
.... أنّه يتعين أن يكون من يقع عليهم الاختيار لشغل الوظائف القضائية أفرادا من ذوي النزاهة والكفاءة، وحاصلين على تدريب أو مؤهلات مناسبة في القانون. ويجب أن تشتمل أي طريقة لاختيار القضاء على ضمانات ضد التعيين في المناصب القضائية بدوافع غير سليمة. ولا يجوز عند اختيار القضاة، أن يتعرّض أي شخص للتمييز على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو الآراء السياسية أو غيرها من الآراء، أو المنشأ القومي أو الاجتماعي، أو الملكية أو الميلاد أو المركز، على أنه لا يعتبر من قبيل التمييز أن يشترط في المرشح لوظيفة قضائية أن يكون من رعايا البلد المعني.
- مخالفة مبدأ وجوب عدم التحقيق مع المدنيين وتقديمهم للمحاكمة أمام المحاكم العسكرية، فالجمعية العامة للأمم المتحدّة تُشدّد على أن ... تكون المحاكم غير مختصة بمحاكمة المدنيين وفي جميع الظروف تكفل الدولة أن تحاكم محاكم مدنية المدنيين المتهمين بارتكاب جرم جنائي من أي نوع.
- انعدام الضمانات القضائية الواجبة التطبيق أثناء إجراء النظر في الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم العسكرية.
ولمّا كان، والى جانب إجماع النصوص والأعراف الدولية والمحلّية على عدم قانونية ومشروعية المحاكم العسكرية، جاء تقرير لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في دورتها الـ 59 المنعقدة في نيويورك، وبعنوان "ملاحظات ختامية"، وذلك بتاريخ 7 نيسان/ ابريل 1997، ليُؤكّد على وجوب تخلّي لبنان فوراً عن اعتماد القضاء العسكري، شأن جميع الدول الديمقراطية. إذ خصّص التقرير المذكور فقرةً كاملةً تحمل الرقم 13 وتتعلّق بالقضاء العسكري اللبناني، أبدت من خلاله (اللجنة) قلقاً حيال الصلاحية الواسعة التي تتمتّع فيها المحكمة العسكرية في لبنان، خاصةً وأنها تتجاوز حدود المسائل التأديبية لتطال المدنيين، وقلقاً حيال الأصول التي تتبعها المحكمة، وبشأن عدم وجود رقابة للمحاكم العادية على أعمالها وأحكامها. وتابعت اللجنة بأنه ينبغي على الدولة المتعاقدة أي لبنان أن تعيد النظر في صلاحية المحكمة العسكرية، وتنقلها إلى المحاكم المدنية في جميع المحاكمات التي تتعلق بالمدنيين أو بحالات انتهاك حقوق الإنسان التي يقترفها العسكريون.
كشف تحقيق أجرته "هيومن رايتس ووتش" في 2017 عن العديد أن الانتهاكات للمحاكمات العادلة والقانون الدولي جزء متأصّل من محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية في لبنان. الكثير من القضاة هم ضباط معينون من وزارة الدفاع ويتبعون لها، ما يضعف إستقلالية المحكمة. والذين مثلوا أمام المحكمة العسكرية وصفوا تعرضهم للاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي، والتحقيق بغياب محام، وسوء المعاملة والتعذيب، واستخدام الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، وإصدار قرارات بدون تفسيرها، وإصدار أحكام تبدو تعسفية، ومحدودية القدرة على الاستئناف. المتهمون، والمحامون، والمجموعات الحقوقية يقولون جميعاً إن السلطات تستخدم صلاحية المحكمة العسكرية لمقاضاة المدنيين لتخويفهم، أو للانتقام السياسي والقضاء على المعارضة.
ليس من شأن المحاكم العسكرية محاكمة المدنيين. على البرلمان اللبناني إنهاء هذه الممارسات المقلقة عبر إقرار قانون يستثني المدنيين تماماً من إختصاص القضاء العسكري.