من حزيران.. إلى حزيران..!

هوَ ذا عام ينقضي.. فهل كان عامَ نكسةٍ عربية كلَّه، كما كان بعد حربِ الأيام الستة السودِ من حزيران؟...
عليْنا أن نحسبَ الآن، لنعرفَ حصيلةَ الحساب:
حقاً أننا واجهنا حينذاك عدواناً إسرائيليَّ الوجهِ واليدِ والراية، أميركيَّ الإرادةِ والخنجرِ والعتاد، إستعماريَّ القصدِ والهدفِ والتكتيك..!!
وحقاً أننا شربنا كأسَ الهزيمةِ حتى الثمالة في مواجهةِ هذا العدوان..!!


وحقاً ـ ولا شك ـ أنّ دوار الهزيمةِ قد بلغ من الأثَر في أعصابِ الكثيرين منّا مبلغَ الإرهاقِ والإعياءِ حتى الاستخذاء، وحتى السقوطِ في شَركِ اليأسِ الذي كان شراً من الهزيمةِ ذاتِها...
وحقاً ـ بعد هذا كلِّه ـ أنّ الرجعيةَ العربيةَ كلَّها، والرجعيةَ اللبنانيةَ بالأخص، لم تستطع أن تملكَ نفسَها من استعجال الأقنعة تزيحها دفعةً واحدة عن وجهها فورَ انكشافِ المَقاتِل العربية الطعين فإذا هي لا تكتفي بقهقهاتِ الشماتةِ الصاخبة الوقحة، بل هي ـ فوق ذلك ـ بادرتْ إلى "ترسانة" أحقادها الطبقية المختزَنةِ أكداساً تصنع منها الأحابيلَ والمؤامراتِ والمخططاتِ الجهنمية للإجهازِ على الأسدِ الجريح وهو ينزفُ دمه وتترنّحُ كبرياؤه تحت ثقلِ المفاجأةِ الصاعقة، شفاءً لغليلِ هذه الرجعيةِ أولاً، وزلفى إلى سادتِها الإمبرياليين والصهيونيين ثانياً، وتداركاً لأمرِ مصيرها قبل فواتِ الفرصةِ السانحةِ، ثالثاً... إنْ لم نقلْ أولاً وأخيراً..!!
ونعني بالأسدِ الجريحِ هنا: حركةَ التحرر العربية، متجسِّدة لا بالدوَل العربية التقدمية وحسب، بل كذلك بالقوى الوطنية والتقدمية والجماهير الشعبية الشريفة النقية في بلاد العرب جمعاء...
نقول: حقاً إن ذلك كلَّه كان أمراً واقعاً بالفعل عند حدوث الكارثة... ولكن، أهذا كلّ الذي كان بعد عدوان الخامس من حزيران...؟ أهذا وحدُه ما نذكرُ اليوم بعد انقضاء عام؟...
لقد نفضنا دوار المفاجأة عن وعينا منذ التاسع من حزيران الماضي بحيث صحّ لنا، بعده، أن نرى من "النكسة" وجهها الآخر الذي عادت تترقرق في معارفه لَمَحاتُ العافية.

***

منذ التاسع من حزيران الماضي، قلتُ...
وذلك هو الصحيح... فهو اليوم الذي نهضَ فيه الأسدُ الجريح بمثل المفاجأة التي سقط بها نازفاً دمُهُ مترنِّحةً كبرياؤه...
نهض في ذلك اليوم فجأة وكأنه ليس الجريحَ الطعين، ولا بالمصعوقِ من أثر الطعنةِ العاجلة أتتْه من داخل كيانه لا من الخارج وحسب..!!
لم يكن بين أنْ سقط الأسدُ مُثخَناً بجراحه في معركة 5 حزيران، وبين أن نهضَ، لا يبالي نزفَ الجراح ولا ترنُّحَ الكبرياء، سوى ثلاثة أيام لا تزيد...
ماذا يعني ذلك...؟ يعني أنّ حركةَ التحرر العربية بالغة، من الرسوخ والتجذّر في حياة شعبنا وفي وجدان جماهيره الشريفة النقية، مبلغَ المناعةِ القادرة ِعلى طردِ جراثيم الهزيمة والضعف والتخاذل حتى حين تهجمُ هذه الجراثيم دفعةً واحدة من الداخل ومن الخارج، على مَقاتلِ الكيان الحيِّ في حملةٍ صاعقةٍ هائلة...
ذلك هو المغزى العميق ليوم 9 حزيران 1967...

***
كان يحسبُ أناسٌ تافهون وأناسٌ سطحيون وأناسٌ شامتون أنّ " نكسةَ " الخامس من حزيران قد بلغتْ تلك المَقاتلَ من كيان الثورة العربية التحررية، وأنْ لا رجاءَ ـ بعدُ ـ من اختلاج نبض الحياة في هذا الكيان... ولكنّ الذي حدثَ أنّ النبضّ قد سارعَ إلى استنجاد الحيويّةِ المذخورةِ في خلايا الذات العربية كلِّها من ممارسة النضال التحرّري الثوري طوال أجيال النهضةِ الحديثة... وقد أنجدتْه هذه الحيوية بدمٍ جديد، ووعي جديد، ورؤية جديدة كاشفة نافذة إلى ما وراء الجدران والأشباح والأقنعة وركام الضباب والأوهام جميعاً...
بهذا الدّم، وهذا الوعي، وهذه الرؤية الكاشفةِ النافذة، أخذت "النكسة" تتحوَّلُ من وجهها الأسود إلى وجهها الآخرَ الذي نُحسُّ اليوم، بعد انقضاء العام، أنه يترقرقُ بلَمَحاتِ العافية...
بهذا الدّم، وهذا الوعي، وهذه الرؤية، كشفت الثورةُ العربية أعداءَها في الداخل وأعداءَها في الخارج في وقتٍ معاً، واستطاعتْ أثناء هذا العام المنقضي أن تضعَ يدَها باللمس المباشر على الأسباب الداخلية الذاتية للهزيمة، وأن تخرقَ نطاقَ " الحصانة " الذي تسيَّجَ به فريقٌ من بيروقراطيي الثورة وبورجوازيّيها الجدد، وأن ترى صنوفاً من أعدائها الآخرين، في ضوء النهار الأوضح، بعيداً عن أستار الظلام والأوهام حيث كانت الإمبريالية الأميركية تحشدهم في الخفاء ينصبون الشراك لموكب الثورة ويحفرون الخنادق ويزرعون الألغام...
بهذا الدّم، وهذا الوعي، وهذه الرؤية، وجدت الثورة العربية، في ضوء الاختبار والتجربة، مكان الأصدقاء والحلفاء منها ومكانها منهم، في العالم الاشتراكي وفي صفوف التقدميين من العالم الآخر... فإذا بهم معاً في مكانٍ واحد من عصرنا، هو مكان الثورة العالمية حيثُ "ورشة" النضال الكبرى لتغيير الصورة القديمة البالية للمجتمع البشري، ولإنشاءِ الصورةِ الجديدةِ له مشرقة منها شمسُ الحياة الجديدة الطالعة في عصرنا: الاشتراكية...
بهذا الدّم، وهذا الوعي، وهذه الرؤية، انبثقتْ في أرض النكبة أزاهيرُ الدم الفدائي تحمل بشائرَ الربيع: ربيع الثورة، بعد العشرين خريفاً الماضيات (1948ـ 1968، تعليق هـ. م).. فإذا الأرض المنكوبة حُبلى بألف ربيع ستَلِدُها ـ بعدُ ـ جميعاً على سواعدَ أبطالِ المقاومةِ والفداءِ العظيم...
***
لم يكن العام الذي انقضى من حزيران إلى حزيران عامَ "نكسة" كلَّه، بل عامَ دمٍ جديد، ووعيٍ جديد، ورؤيةٍ جديدةٍ كاشفةٍ نافذة إلى ما وراء الجدران والأشباح والأقنعة وركام الضباب والأوهام.. نافذة إلى مطارحِ الضوء والأمل، ومصادر الحيوية المذخورة في وجدان شعبنا المكافح الثائر...

* نُشرت هذه المقالة للشهيد المفكر حسين مروة في جريدة "الأخبار"، بتاريخ 2 حزيران العام 1968.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 378
`


حسين مروة