أصبح واضحاً من غير تفضيل أو جدال عليل، أن إنسانية الإنسان هي التي تفرض نفسها، في حال قرّر هذا الأخير أن يسلك درب المعرفة والتقدّم والرقيّ، أميناً على ما ورثه، ضنيناً بالذي سوف يورّثه، وتالياً مستحقاً إنسانيته عاملاً على إبراز أفضل ما فيها وأجمل معانيها.
كذلك نرى في الناظر إلى سلوك المجتمعات غلبة بعض المفاهيم كقول التوسير أن الأيديولوجيا تتربّص بالعلم، ونحن من مفاهيمنا الديموقراطية التي باتت تتحلّل شيئاً فشيئاً، نريد أن يتحوّل هذا المفهوم إلى عملية تعاضد وتستعمل العلم. لخدمة كلّ فكرٍ نيّر ومتعالي من دون الغوص في المعميات.
في سلوك الشعوب والمجتمعات نستطيع أن نستشف مليّاً كيف يتصرّف الإنسان متأرجحاً بين الخير والشرّ حاصداً في حال تغلّب على الشرّ الخيرات، أما إذا تغلّب الشرُّ على الخير فيحصد تالياً، المآسي والمجازر والحروب باغياً على أخيه الإنسان، مولّداً سلوكيات العدم والعنف في صميم البشرية.
وعليه لا تظهر فضيلة الإنسان إلّا من خلال تعامله مع الإنسان الآخر، حينها تعرف حقيقة الفضائل، وتطفو على السطح خلاصات الرذائل، كما وأن السلبيات مهما تقنّعت بألف قناع ، تبقى ظاهرة للعيان ونتائجها واضحة لا يختلف إثنان في مدى الخراب الذي تحصده.
لهذا السبب إلى جانب أسباب أخرى، تنادى الأدباء والكُتّاب والمفكّرون والشّعراء والفلاسفة إلى القيام بثورة ، ثورة على العقل وعلى التقاليد وكلّ شيء وما كان منهم سوى تمهيد الطريق وفتح المسار وكان دوستويفسكي الثائر الأكثر تعبيراً حين كتب عن المجتمع أسمى النصوص الأدبية عبارة عن لوحات حيّة، تظهر حقيقة المهَمّشين والمذلولين الذين راحوا ضحية الكبار وسحقتهم مخططات الحقراء، يقول دوستويفسكي في هذا الصدد:
حينما يكتمل وعي الإنسان وإدراكه للحياة ، أمّا أن يعيش في الصّمت إلى الأبد، أو أن يصبح ثائراً في وجه كلّ شيء..
هذا الكلام يصرّح جليّاً أن الإنسان مفطور على الثورة في كلّ آن، ويرد على مزاعم كثر من الذين لا يرون شيئاً في الإنسان سوى المتلقّي الخانع الصامت الأبدي.
وقبل دوستويفسكي أتى جان جاك روسو مبشّراً بالثورات وانتفاضات الشعوب المقهورة في ممالك أوروبا الخاضعة لأمزجة الملوك وعبث النبلاء والحاشيات المُترَفة التي تعيش على ظهر العمال والفقراء والفلاحين والحرفيين الذين هم في أصل كلّ ما يتمتّع به أهل البلاط والنبلاء والأثرياء من مأكل وملبس ورفاه بينما المنتِج يُحرَم من نتاجه.
لقد حذّر روسو مراراً وتكراراً قائلا :
عندما يتوقّف الشعب عن الدفاع عن حرياته وحقوقه يصبح جاهزاً للاستعباد ..
وهذا ما حصل فعلاً في كلّ مفاصل التاريخ المعلوم من قبلنا. هذا ما ورثته الشعوب من جيلٍ لجيل على مدى قرون متواصلة وإنتاج طبقات حاكمة مستبّدة لم يقف أحد في وجهها لكي يردعها، في الماضي اعتبر المفكّر الفرنسي وأوّل عالم نفس معروف بالشكل المتفق عليه فوفنارغ أن عملية تقريب المتناقضات الظاهرة يؤدّي حتماً إلى تشكيل نظام منطقي .. فهل هذا يكفي في مجتمعات اليوم التي نعاني فيها من ألوان الطيف المتعددة من المتناقضات ..!!؟
يقول أندريه موروا :
في الأدب كما في الحبّ، تندهش أحياناً لنوعية ما يختاره الناس.
فهل الأمر سيان في الثورة وفي طريقة الحكم ..؟