نعم سقطت المبادرة الفرنسية في نسختها الأولى بفعل مجموعتين من العوامل: التباينات الدوليّة والإقليمية حول كيفية إدارة الصراع والتوازنات في لبنان، وحول وجهة استثمارها سياسياً في المواجهة الدائرة في المنطقة؛ والتناقضات المذهبية المحتدمة محليّاً حول تفسير بدع الميثاقية والحقوق المتوارثة في تقاسم الوزارات وحول اصطناع أعراف جديدة تضاف إلى ما سبقها من أعراف في ظل نظام سياسي طائفي لم ينتج إلّا الفشل والبطالة والفقر وتحاصص المال العام والخاص والاستنفار الدائم لمشاعر الخوف والقلق في صفوف اللبنانيين. وقد فشلت محاولة التأليف الحكومي غير المأسوف عليها في ظل سعي الفرنسيين لإعادة تجديد وصايتهم على لبنان، ووسط سعي فريقي الحكم لتثبيت أعرافهم الجديدة: من نادي رؤساء الحكومة السابقين الذين يتحمّلون القسط الأكبر من المسؤولية عمّا انتهى اليه البلد من فشل وخراب وإفقار وإفساد، وها هم الآن يستقوون بالخارج لتشكيل الحكومات على طريقتهم وتحليل وتحريم ما يجوز أو لا يجوز فيها؛ وصولاً إلى الفريق الآخر الذي باسم الثنائية الشيعية والمثالثة حاول تكريس إمساكه بوزارة المال ، وكأنّ حلّ المسألة الطائفيّة لا يكون إلّا بتكريس المزيد منها.
لقد فشلت محاولات التأليف وتعثّرت المبادرة مؤقتاً، لكن مشروع الوصاية الجديدة بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مستمر، بل هو يتحضّر لتكريس دوره كراعٍ دولي للتوازنات المحلية القائمة، وكخادم أمين لمصالح الغرب وأمن العدو الصهيوني، وتحديداً في فترة انكفاء الإدارة الأميركية نسبياً بسبب انتخاباتها الرئاسية، وتحت ضغط تفاقم الأزمات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية فيها. ووسط هذه المعطيات، تصطفّ بوارج الدول الغربية وأساطيلها ورجال أمنها في المرفأ وداخل مياهنا الإقليمية وصولاً إلى انتشار قوات اليونيفيل في محيط المرفأ وأحياء بيروت، بالترافق مع موافقة رسمية ضمنية وصمت سياسي شامل من قبل أطراف الحكم أجمعين. هذا مع العلم أن لهذه التدخّلات الخارجية أذرعها المحليّة، من قوى سياسية ومؤسسات دينية وجمعيات "إنسانية" وفرق إغاثة ووسائل إعلام وأبواق مأجورة، التي تتفاعل مع دعوات الفدرالية ودعوات الحياد التي تشكّل عمليا الصدى المباشر لمسار التفتيت والشرذمة والتطبيع الإقليمي والإماراتي-البحريني وما سيليه من حياد معلن بين العدو الصهيوني الغاصب والشعب الفلسطيني الذي يقتل ويجرح ويقصف ويهجّر كلّ يومً.
إن هذا كلّه يجري فيما يصطفّ اللبنانيون على أبواب السفارات هرباً من انسداد الأفق وتراكم الأزمات التي تسبّبت بها القوى الحاكمة، وها هم يركبون اليوم قوارب الموت صوب مقبرة البحر الأبيض المتوسط هرباً من الجحيم إلى الجحيم، بعدما خسرت مئات آلاف العائلات ادخاراتها ومصادر دخلها وقدرتها الشرائية، وسط الانهيار المرتقب للقطاع الصحي تحت ضغط انتشار الكورونا وعشوائية السياسات الرسمية واقتراب تنفيذ قرار وقف الدعم، الذي سوف يخلّف تداعيات كبيرة على بنية الأسعار وتكاليف المعيشة. فاللبنانيون يعيشون مرحلةً تاريخية مريرة تكاد تطيح بمقوّمات وجودهم اليومي، فيما لا ترى قوى السلطة إلّا الصراع على الحصص والمغانم، وهي تتعاضد فيما بينها لتحمي النظام القائم الذي تسبب بكل ذلك، وللتغطية على الفاسدين والسارقين الذين تلطّوا بالسياسات النقدية والمالية طوال عقود ليتولّوا السطو على المال العام والخاص. ولا يتوانى هؤلاء عن تقديم التنازل تلو التنازل لأوصياء الخارج، فيما هم لا يقدمون لشعبهم سوى القلق والجوع والموت المتنقّل في صراعاتهم الزبائنية والمذهبية، كما حصل مؤخّرا في أحداث اللوبية وخلدة والطريق الجديدة وميرنا الشالوحي... والحبل على الجرّار. كل ذلك شكل الأرضية السياسية المناسبة للأحداث الأمنية الخطيرة التي يشهدها الشمال تظهيراً للدور الخطير الذي تقوم به المجموعات الإرهابية والقوى الإقليمية الداعمة لها، حيث سقط خلال التصدي لاعتداءاتها عدد من الشهداء في الكورة وعكار والمنية من عسكريين ومدنيين.
أمام اشتداد الضغوط والتدخلات الخارجية وتفاقم أزمة النظام الطائفي الريعي التابع، يرى الحزب الشيوعي اللبناني أنّ مواجهة الأزمة باتت تتطلّب اليوم إسقاط وتصفية هذا النظام والانتقال الحاسم الى الدولة العلمانية الديمقراطية المقاومة. والمدخل الى هذا الانتقال يكون من خلال حكومة وطنية انتقالية بصلاحيات تشريعية من خارج المنظومة الحاكمة، وأن تكون هذه الحكومة مؤتمنة على وضع خطة للتغيير والإنقاذ السياسي والاقتصادي وتحميل أعباء الانهيار لمن اغتنى واستفاد من نهب ادخارات اللبنانيين وثرواتهم، وذلك بالتزامن مع إقرار قانون انتخابي قائم على النسبية خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة، ومع فرض وتطبيق الإصلاحات التشريعية والمؤسسية والإدارية والرقابية المنشودة.
فحماية استقلال لبنان وسيادته وحقّ شعبه بالمقاومة لا يمكن أن تتحقق عبر الإيغال في الانكفاء نحو المواقع الطائفية البدائية والخطاب المذهبي المدمّر والمفتّت، ولا عبر التحوّل – بالاستناد إلى حسابات سياسية خاطئة - الى حصن منيع يتولّى عمليا وموضوعيا الدفاع عن المساوئ والعورات التاريخية للنظام الطائفي اللبناني البائس. فمثل هذا النهج هو، بالتحديد وبالأساس، ما كانت وما زالت تصبو اليه وتتوسّله غالبية التشكيلات السياسية الطائفية المحلية المتظلّلة بالقوى الخارجية التي تعمل على تنفيذ مشروع صفقة القرن وتفتيت دول المنطقة وفرض التطبيع مع العدو الصهيوني وصولاً إلى التصفية النهائية والمذلّة لقضية الشعب الفلسطيني كمقدّمة لفرض الهيمنة الكاملة على الشعوب العربية. وفي مثل هذه الظروف، يرى الحزب الشيوعي اللبناني أن حماية الاستقلال والسيادة وحقّ الشعب في المقاومة لا تكون إلّا بكسر الوصاية والتبعية وإسقاط النظام الطائفي القائم وتحقيق ما قامت من أجله جمّول وانتفاضة الشعب اللبناني في 17 تشرين الأوّل.
وليكن عيد تأسيس الحزب في الذكرى السادسة والتسعين لتأسيسه محطة سياسية تصب بهذا الاتجاه، داعين منذ الآن جميع منظمات الحزب وقطاعاته في الداخل والخارج إلى تنظيم اوسع برنامج للنشاطات والندوات والاحتفالات والتحركات احياء للمناسبة وتحضيرا للنزول إلى الشارع في 24 تشرين الأول في بيروت، تحت شعارات الحزب وأعلامه وراية الثورة الوطنية الديمقراطية.
داعين بذات الوقت لإطلاق كل المبادرات وتنسيقها منذ الآن بما يخدم هذا الهدف وإلى إحياء الذكرى الأولى للانتفاضة في المناطق وساحاتها تحضيراً للتحرك المركزي في بيروت في 17 تشرين الاول واعتبارها منصة من منصات المواجهة المفتوحة مع هذه المنظومة المرتهنة ومن أجل تغيير موازين القوى وبناء اوسع ائتلاف وطني يطلق المشروع السياسي البديل.
بيروت في 29-9-2020