تدخل الشقة، فتجده جالساً على كنبته الخشبية بين كتبه ومخطوطاته، رغم المحاولات المتكررة تبقى عاجزا عن ضبط تساؤلات عفوية يفرضها عليك العقل في باطنه "ترى من جلس على هذه الكنبة؟" جورج حاوي؟ مهدي عامل؟ حسين مروة؟ ربما جميعهم فأنت في منزل المفكر والصحافي والكاتب كريم مروة.
مروة هو أحد مؤسسي جريدة "النداء"، وأبرز من واكبها طوال نصف قرن من الزمن، في نجاحاتها وإخفاقاتها، في طلعاتها ونزلاتها، في السلم والحرب.
قليل الكلام، كثير التفكير، يجلس الشيوعي العجوز في كرسيه، وعلى الطاولة عدد من جريدة "نداء الوطن" الذي كتب فيها اكثر من مرة. رغم سنواته الـ ٩٢ يواظب مروة على متابعة الاحداث السياسية اليومية بأدق تفاصيلها. هو الشيوعي الذي تتلمذ على ايدي كبار قياديي الحزب من فرج الله الحلو ونقولا الشاوي. الدرس معروف وهو الاصعب والاقصر في ان "المثابرة في الفكر والالتزام بالوعي".
١٩٥٩: في البدء كانت... "النداء"
قبل الغوص في الحديث عن جريدة النداء كركن اساسي من اركان الحزب الشيوعي الاعلامية، يحرص كريم مروة بدقة علمية منهجية على شرح بدايات الجريدة، وكيف انتقلت الى موقعها السياسي الحالي فيقول:
"كانت جريدة النداء في ثلاثينات القرن الماضي الناطقة باسم "حزب النداء القومي"، الذي كان يرأسه كاظم الصلح وشقيقه تقي الدين الصلح. بعد ذلك، في الاربعينيات، انتقلت ملكيتها الى الحزب السوري القومي الاجتماعي. في اواخر عام ١٩٥٨ نظمت قيادة الحزب الشيوعي حملة تبرعات لشراء الجريدة، فتوفرت الامكانات المطلوبة واصبحت "النداء" في مطلع عام ١٩٥٩ جريدة الحزب الشيوعي اللبناني. كان قد سبق صدورها، صدور جريدة الاخبار الاسبوعية".
وعن كيفية تسلمه اولى مسؤولياته في الجريدة يتابع مروة:" أذكر انني استدعيت من قبل القائد الشيوعي الكبير فرج الله الحلو لكي أكون معه ومع مجموعة من الرفاق في هيئة التحرير لإصدار الجريدة. وهكذا صدر العدد الأوّل منها في شهر كانون الثاني من عام ١٩٥٩. كانت لي في الصفحة الرابعة زاوية اسبوعية كنت اقدم فيها قراءتي للاحداث التي كانت تجري في لبنان والعالم العربي والعالم. وكان يشجعني على هذه القراءة الرفيق فرج الله الحلو، الذي كنت قد عملت معه في اواخر عام ١٩٥٧ في جريدة "النور"، التي كانت تصدر باسم الحزب الشيوعي السوري – اللبناني، وكان فرج الله مشرفًا عليها وكنت انا في هيئة التحرير".
اصبحت نبرة صوت مروة أقوى، وارتسمت على وجهه ملامح الاعتزاز وتابع:" أذكر هنا ان الرفيق فرج الله كان، بسماته المعروفة، حريصًا على مساعدة الجيل الجديد من الشباب على ان يمتلك بشكل صحيح المواقف السياسية والفكرية. كنت اكتب مقالات في جريدة "النور"، واحياناً يطلب مني الرفيق فرج الله ان اكتب افتتاحيات، وكان يناقشني في ما اكون قد اعددته للنشر، وكان يحثني على الوضوح في الافكار، ويذكرني دائمًا بضرورة إيصال الفكرة الى القراء بطريقة جلية وواضحة. بفعل ذلك، اعتبر ان لفرج الله الحلو دور اساسي في تكوين قدرتي على الكتابة. لذلك كنت فرحاً بأنه استدعاني لكي اكون معه في هيئة تحرير النداء".
كان فرج الله مشرفًا على الجريدة تماما مثل ما كان مشرفًا على جريدة "النور" في دمشق، إذ لم يكن هناك من رئيس للتحرير".
المقال القاتل: حادثة اغتيال فرج الله الحلو
كانت سنة تولي فرج الله الحلو الاشراف على "النداء"، السنة عينها لإغتياله، وكأنها مؤامرة القدر على هذه الشخصية الوطنية التي ابت السكوت عن هرطقات الأنظمة الشمولية.
لكن ما يظهر وكأنه صدفة غريبة يتحول بسرعة الى علاقة سببية تربط "النداء" بحادثة اغتيال الحلو.
يتابع مروة كلامه عن فرج الله:" الجدير بالذكر هنا وانا استحضر اسم فرج الله، ان اولى الخطوات التي اتخذتها الجمهورية العربية المتحدة كانت الغاء الاحزاب السياسية بما في ذلك حزب البعث الذي كان من الذين دعوا الرئيس عبد الناصر ووافقوا معه على تأسيس الجمهورية المتحدة".
من المعروف ان موقف الشيوعيين كان معارض بشدة للوحدة المصرية-السورية وهذا ما جعل الشيوعيين في سوريا أول المستهدفين من قبل النظام الجديد.
عن هذه الفترة يقول مروة: "تحوّل موقف الرئيس عبد الناصر الى موقف سلبي جدًا من الشيوعيين واذكر انه وصفهم في احدى خطبه بالخونة للأمة العربية. بعد ذلك الخطاب، رد عليه الرفيق فرج الله بمقال بصيغة رسالة نشرها في جريدة "النداء" متهماً اياه بأنه ديكتاتور، وناقشه بجرأة استثنائية فكان الثمن ان اعتقل في حزيران وعُذب ثم ذوب جسده بالأسيد. كانت الغاية من تذويب جسده اخفاء معالم الجريمة، كون عبد الناصر لم يكن يريد ان يكون مسؤولاً عن اغتيال شخص بحجم فرج الله الحلو". يوضح مروة تفاصيل هذه المرحلة، مؤكداً انه سبق واكتشف الحزب استشهاد فرج الله في الساعة الاولى من اعتقاله، ونظمت حملة تضامن عالمية معه. فقد تشكلت لجنة دولية للمطالبة بالافراج عن الحلو، وتدخل مع عبد الناصر قادة عالميون من تيتو وسوكارنو ونهرو وغيرهم، يحثونه على الافراج عن الزعيم الوطني، الا ان عبد الناصر استمر في انكار اي علاقة له في ذلك.
النداء: وريثة ارث صحافي عريق
يؤكد مروة ان "النداء" لم تأتِ من العدم، ولا هي سابقة في الصحافة التقدمية اللبنانية، بل هي امتداد لمشروع فكري ثوري بدأ في ثلاثينات القرن الماضي. عن هذا يوضح: "الجريدة استعادت تاريخا قديما، فأول جريدة اصدرها الحزب الشيوعي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي وهي جريدة "صوت الشعب". استمرت في الصدور خلال الحرب العالمية الثانية الى عام ١٩٤٧، حين اغلقتها السلطات بسبب الموقف العام من النكبة في فلسطين ومن الحكومات العربية. يومها صدرت بيانات متعددة اهمها بيانات الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. والمهم في الموضوع هو التأكيد على ان جريدة "النداء" كانت استعادة لتاريخ قديم يتمثل بجريدة "صوت الشعب". لذلك كان هنالك حرص دائم من الرفيق فرج الله الحلو والرفاق الذين اتوا بعده، ان تعبر جريدة "النداء"، في الظروف الجديدة، عمّا كانت تعبّر عنه جريدة "صوت الشعب" في الظروف السابقة".
يلحظ مروة عندها دور "النداء" الاساسي في ظروف استثنائية فيقول: "بدأت الجريدة تلعب تدريجيًا، دورًا مهمًا في توضيح وتقديم افكار الحزب، الذي كان في ذلك التاريخ قد تحول الى حزب سريّ. كانت النداء تنطق باسم الحزب بالصيغة المسموح بها لتجنب اغلاقها من قبل السلطات. وكان دور النداء يتطور يوما بعد يوم". ينسب مروة جزئيا هذا الدور المتعاظم لجريدة "النداء" الى الزمن الفائت، فيؤكد ان في تلك الايام كانت الصحيفة الورقية في عزها وكان عدد القراء كبير لذلك يؤكد ان قيادة الحزب كانت دائما حريصة على ان تكون "النداء" ناطقة باسم الحزب، ومقدمة لافكاره، إنما من دون إثارة انتباه السلطات كي لا تلقى "النداء" مصير "صوت الشعب".
يميز مروة بين مرحلتين مختلفتين مرت بهما "النداء"؛ المرحلة التي كان خلالها الحزب سرياً والمرحلة العلنية. عن المرحلة العلنية للحزب التي بدأت عام ١٩٧٠ يقول مروة: "عندما عيّن كمال جنبلاط وزير داخلية، اعطى مجموعة من الاحزاب الترخيص بالعمل العلني، ومن ضمنهم الحزب الشيوعي. فتحولت الجريدة من جريدة كانت تتكلم باسم الحزب بشكل مرن وسري الى ان اصبحت تتكلم باسم الحزب الشيوعي علانية".
١٩٦٦: عاصفة التغيير آتية
يتابع كريم مروة حديثه بتفصيل هوية الحزب في تلك الفترة التغييرية : "المعروف ان الحزب بتاريخه القديم والحديث غني بعدد المثقفين الذين ينتمون اليه. والتي كانت تعبر عن هذا الأمر بشكل اوضح واعمق من "النداء"، كانت مجلة "الطريق" التي كانت تصدر أعداداً غنية بالقضايا الذي كان الحزب حريصاً على ان يضعها أمام القراء. لست بحاجة الى التذكير باسماء حسين مروة ومهدي عامل وقبلهم محمد عيتاني ورئيف خوري والعديد غيرهم".
يشدد مروة على أهمية هذه المرحلة في اعادة رسم مستقبل الحزب، فيقول: "استُدعيت أواخر عام ١٩٦٤، بعد انفصال الحزبين، من قبل الرفيق نقولا الشاوي، فعدت الى لبنان. استقبلني يومها الرفيق نقولا قائلًا لي "نحن امام مرحلة اعادة تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، ولذلك انت مدعو في ان تكون في قيادة الحزب، وستكون عضوًا مرشحًا للمكتب السياسي". فأجبت الرفيق نقولا قائلا "ما بيصير" مطالبًا بمؤتمر عام. فأكد لي ضرورة حصول المؤتمر، ولكنه طلب مني التريّث. في هذه الفترة، عام ١٩٦٦ اصبح الرفيق جورج حاوي عضو لجنة مركزية في الحزب. وتجدر الاشارة في هذا السياق الى ان نقولا الشاوي، خلافاً لخالد بكداش، كان يتميز بتقديم وتشجيع الشباب. كان يكلّف الشباب مثلي ومثل جورج حاوي بمهام معينة من أجل اكتشاف الكوادر التي تستحق ان تكون في مواقع اساسية في الحزب. لذلك كان همّ الشاوي عام ١٩٦٥، ان يُهيّئ الشروط لولادة المقدمات التي تحول الحزب الشيوعي اللبناني الى حزب حقيقي. وأذكر اننا في شباط عام ١٩٦٦ كانت قد وصلت الى قناعات الرفيق نقولا ضرورة تأسيس لجنة مركزية واسعة ومكتب سياسي وسكريتاريا واذكر انني اصبحت عضوا اصيلا في المكتب السياسي والسيكريتاريا وانتقل جورج حاوي من اللجنة المركزية إلى المكتب السياسي والسيكريتيريا ايضاً. اصبحتُ وحاوي في موقع مسؤولية وكنا الشابّين الوحيدين ومعنا "الحرس القديم" المتمثل بنقولا الشاوي، حسن قريطم، ارتين مادويان وصوايا صوايا." احتدم الصراع بين التيار المحافظ والتيار التجديدي في الحزب، المتمثل بالشباب الذين يريدون الاستقلال عن قرار الاتحاد السوفييتي.
يصر مروة على محورية الدور الذي لعبه الجيل الجديد في اعادة تأسيس الحزب، والدفع من اجل استقلاله واستقلال قراره. يواصل مروة سرده مؤكدًا ان هذا النفس الاصلاحي التجديدي انعكس على صحافة الحزب وعلى "النداء" بشكل خاص. فكانت الجريدة حسب قوله، تكمل مجلة "الطريق"، بتقاريرها وابحاثها ومقالاتها.
١٩٩٠: نهاية حقبة؛ بداية لاخرى
يتابع مروة حديثه: "اختصر الزمن للوصول الى عام ١٩٩٠، عام نهاية الحرب الاهلية، بالمناسبة اريد الاشارة الى هذه الفترة بالقول ان الحرب لعبت دورًا سلبيًا جدا في الحياة الفكرية والسياسية والثقافية للحزب. كان همّ الحزب الأساسي الحرب بذاتها اكثر من الاهتمام بالقضايا المتصلة بالثقافة والفكر والسياسة. في هذه الفترة ضعفت جريدة "النداء" بشكل كبير الى حد التلاشي التام. بدأ يعاني المحررون من عدم الحصول على رواتبهم. في هذا الصدد، اذكر انه في النصف الثاني من عام ١٩٩٠ عُقد اجتماع للجنة المركزية، وتقرر أن أكون مشرفًا على جريدة "النداء" من اجل النهوض بها من جديد. اذكر انني اعترضت على ذلك القرار بسبب تقدمي بالسن ورغبتي في التفرغ لامور اخرى. بالرغم من ذلك، اتخذت اللجنة المركزية قرار تعييني بالاجماع فطلبت الاذن للخروج. توجهت بسرعة عند صديق لي يدعى جميل سعيد، وهو رجل اعمال من بلدتي، وصارحته انني كُلفت بمهمة صعبة، وهي النهوض بجريدة "النداء" من جديد، فطلبت منه المساعدة. فوراً اخد شيكاً مصرفيًا وكتب عليه مبلغ خمسون الف دولار اميريكي، فشكرته وعدت الى اللجنة المركزية، التي كانت لا ترال مجتمعة. عند دخولي الى الاجتماع وضعت الشيك امام المجتمعين وقلت لهم "هذا اول الغيث". رحبوا جميعاً بالخطوة وتمنوا لي النجاح والاستمرار. منذ هذا التاريخ، بدأت اجمع التبرعات من هنا والاعلانات من هناك، واستخدمت كل علاقاتي الواسعة. اذكر أيضًا انه في تلك الفترة كانت قد بدأت لي علاقة مع هيئة ادارة "طيران الشرق الاوسط" مع سليم سلام ويوسف لحود. فعرضت عليهم اعلان في الجريدة مقابل توزيع الجريدة في كل رحلات طيران الشرق الاوسط مثل سواها من الصحف، فوافقوا على ذلك. شكل هذا الحدث سابقة، ان تدخل جريدة الحزب الشيوعي اللبناني الى طيران الشرق الاوسط، وهذه خطوة مهمة في مسيرة الارتقاء بالنداء من جديد.
في تلك الفترة، تحسنت الظروف كثيرًا فحولت مركز الجريدة الى مركز لقاءات مع المثقفين والسياسيين، وطلبت من العديد من المثقفين كتابة مقالات في الجريدة، حتى لا تكون محصورة باطار حزبي ضيّق، بل ان تنفتح على اراء الذين يلتقون مع الحزب في بعض المواقف".
يشير مروة ان الهدف من ذلك هو ان تكون النداء جريدة حزبية لكن في الوقت عينه يجب ان تنعكس فيها المواقف العامّة في البلاد، ويتابع: "هذا الأمر حوّل الجريدة مما كانت تعاني منه بسبب الحرب الى جريدة من نوع آخر. للمصادفة كنا في تلك المرحلة نحضر للمؤتمر السادس في الحزب فحولت مركز الجريدة الى مركز لنقاش وثائق المؤتمر. وكنت قد كلفت من موقعي لأكون رئيس لجنة التحضير للمؤتمر وكان نائبي الرفيق غسان الرفاعي".
يتوقف مروة قليلًا عن الكلام، ينظر الينا وكأنه على وشك البوح بسر، ويقول: "أذكر ان في تلك الفترة قام بعض الرفاق في قيادة الحزب بمواقف معادية لي لم اعرف اسبابها، يومها طلبت من الرفيق جورج حاوي ان نسلم لجنة التحضير الى الرفيق غسان الرفاعي لأكمل انا في الجريدة.
في تلك الفترة ايضاً، اذكر ان الرفيق جورج طلب مني تحضير الوثيقة النهائية بعد النقاشات التي حصلت لتكون الوثيقة التي ستطرح الى المؤتمر، فذكرته بالموقف السلبي مني في الحزب لكنه اصرّ على تكليفي بالمهمة. بالفعل، ذهبت والرفيق جورج بطل الى دمشق لإعداد الوثيقة، الأمر الذي استغرقنا ثلاثة ايام. انجزنا وثيقة متكاملة اخذين بعين الاعتبار النقاشات والاراء واضفنا اليها بعض الافكار. عند عودتنا الى بيروت سلمنا الوثيقة الى الرفيق جورج حاوي وطلبنا منه تبنيها ففعل واقرت الوثيقة مع بعض التعديلات.
هنالك بعض الأمور الأساسية في هذه الفترة لا بد من ذكرها. في هذه الفترة (١٩٩٠-١٩٩١) انتهت الحرب الاهلية في لبنان بشروط كان الحزب فيها هدفا من قبل الوصاية السورية، فخرج من الحرب ضعيفًا. ومن العوامل المهمة ايضاً التي اضعفت الحزب هو انهيار الاتحاد السوفييتي.
رغم كل هذه التحديات، قررنا المضي قدمًا، متشبثين بهويتنا وفكرنا الاشتراكي. اكدنا على ما قد وضعناه من عناصر تجديد في المؤتمر الثاني عام ١٩٦٨، وقررنا أيضًا تحويل الجريدة الى منبر لفكرنا الجديد. لكن للأسف كانت الاوضاع بدأت تتخلخل داخل الحزب، واسر لي الرفيق جورج حاوي نيته بالاستقالة. رفضت الفكرة قطعيًا وأصررت عليه ان يكمل مهمته في هذه الظروف الصعبة.
عُقد المؤتمر بنجاح وأُعيد انتخاب حاوي امينًا عامًا. اما بما يخصني فقد اعلنت عام ١٩٩١ عن ارادتي توقيف نشاطي الحزبي للانتقال الى متابعة نشاط فكري وسياسي مستقل. لكنني عرفت ان جورج حاوي ينوي ايضاَ الاستقالة من الامانة العامة، وكنت اعي ان هذه الخطوة ستضعف الحزب، وهذا ما دفعني الى العدول عن قراري، والبقاء في المكتب السياسي. وبالفعل، بعد المؤتمر ببضعة اشهر، استقال الرفيق جورج. يومها كتبت مقالة في "النداء" حاولت فيها تقديم نقد متوازن لخطوة حاوي، وان اضيء على المرحلة الجديدة في الحزب.
مع الاسف لم تنشر وثيقة المؤتمر السادس، التي كانت تؤكد ما قمنا به عام ١٩٦٦ من تجديد. تراجع الحزب في تلك الفترة، وكان البحث يدور حول خلف للرفيق جورج حاوي، فتم الاتفاق على اسم فاروق دحروج. بالرغم من ذلك كان غياب جورج يلقي بثقله على الحزب. واجهنا صعوبات جمة في ادارة الحزب في ظل الوضع الجديد. اريد ان اعترف ان في هذه الفترة كان الحزب قد بدأ يتخلخل، وانفجرت التناقضات الداخلية رغم محاولاتي الحثيثة مع بعض الرفاق القدامى على مساندة الحزب".
١٩٩٢النداء من صحيفة الى مجلة
في هذه المرحلة من الحديث. يقف المرء مدهوشًا من عظمة التجربة بنجاحاتها واخفاقاتها بنهضتها وكسرتها. انظر الى مروة لأرى فيه التاريخ المتجسد انساناً فيتابع سرد مسيرته: "عام ١٩٩٢ قررنا تأسيس الشركة العربية للنشر والاعلام، وكنت انا رئيس مجلس ادارتها ووزعنا الاسهم بعض الرفاق منهم اعلاميين ومنهم غير ذلك. قررنا في حينها تحويل "النداء" الى مجلة اسبوعية، و"الاخبار" الى جريدة يومية، ووضعنا "النداء" و"الاخبار" و"الثقافة الوطنية" امتيازات تملكها الشركة المذكورة. الهدف من ذلك كان جعل "النداء" اكثر تعبيرًا عن مواقف الحزب مع الانفتاح على القوى الاخرى، وجعل "الاخبار" منفتحة اكثر فلا تكون محصورة باتجاه حزبي ضيّق، اردناها جريدة الحزب لكن اردناها جريدة الشعب اولاً.
تحولت النداء في ذلك التاريخ الى ارقى المجلات وقررت كتابة افتتاحية اسبوعية اعبر فيها عن مواقفي، وكان لي بعض الاحاديث مع مفكرين. فعلاً اصبحت مجلة النداء "حدثا" بحد ذاته، ولعبت دورا اساسيا في تلك الفترة.
رغم كل ذلك، القت ازمة الحزب ثقلها على النداء ومنعتها من الاستمرار طويلاً، استمرت لسنتين، لكن للاسف لم يعد هنالك اهتمام بالمجلة من قبل المعنيين وهذا ما اودى بها الى الافلاس. عندها قررت الاستقالة من مهامي وانتهى دوري في "مجلة" النداء في ذلك التاريخ".
يختم مروة حديثه بخلاصة منهجية اعتاد المفكرون الماركسيون عليها: "بهذا العرض الذي قدمته، بقدر ما سمحت به الذاكرة، ابين الدور الذي لعبته "النداء" في مختلف المراحل والدور الذي لعبته انا في ادارتها والكتابة في صفحاتها".
انتهى الحديث وكأنني عبرت اميالا من المسافة، فقد عبرنا التاريخ بمختلف احداثه وحقباته وانتقلنا بين العواصم والمدن، جلنا بين متاريس الحرب وصعدنا على منابر مؤتمرات زمن السلم . رحلنا بين القرون والازمنة متابعين تجربة غنية وثمينة تساعدنا على تأريخ مسيرة الحزب و"النداء" لتبقى كما وصفها مروة "جريدة من نوع آخر".