الحزب الذي لا يشيخ

عمره 98 سنة ولايزال حاضرا في قلب المعركة الوطنية والاجتماعية.. قدم تضحيات جسيمة وغالية، ويستمر وفيّا لشهدائه، ووفيّا لقضايا شعبنا..
مرّ في مراحل نهوض وهبوط وظروف قاسية، ولم يتراجع، بل كان في كل مرة يخيّب امل الخصوم الطبقيين والطائفيين وحملات العدو الاستعماري.

 

فلم تخلُ ساحات النضال الوطني والاجتماعي من حضوره. ولا يستطيع عاقل انكار دوره البارز في معركة الاستقلال، والدفاع عن حقوق ومطالب العمال والكادحين، وصولا الى العمل لبناء مجتمع العدالة والاشتراكية.. فهو عصيّ على المعادين له وحملاتهم التشويهية الرامية الى اطفاء شعلته.. فهو متجذّر في تربية شعبنا، وباق مع بقاء الشعب والوطن. يستمدّ افكاره وتجربته من تاريخ شعبنا اللبناني والعربي، وانتفاضاته وعامياته الشعبية، ومن تقاليد نضاله للتحرر من كل انواع الظلم.
كما ان افكار الثورة الفرنسية، وثورة اوكتوبر الاشتراكية واصداءها، شكلت احد مصادر فكر هذا الحزب، الذي كان يحمل اسم حزب الشعب اللبناني، قبل ان يتحول بعد اكثر من سنين على نشوئه الى الحزب الشيوعي اللبناني.
فالمنهج الفكري لهذا الحزب، يمكّنه من دراسة واقع بلدنا وتناقضات مجتمعنا وحركته، وتحديد توجهاته وبرنامجه السياسي والنضالي الهادف الى التغيير الثوري، لذلك فهذا الحزب لا يشيخ.. ويستمرّ متجددا بشبابه ومناضليه، مستفيدا من تجربته نفسها. فمؤتمراته ليست فقط لانتخاب هيئاته القيادية والوسطية والقطاعية على اهمية ذلك، بل هي محطات لدراسة ظروف المرحلة والواقع القائم، والترابط والتفاعل بين ماهو محلّي واقليمي وعالمي. وهو بذلك منفتح على البحث والنقاش وابداء الرأي والاجتهاد، وعلى النقد، لاغناء الخط السياسي ومواقفه. وهو حزب الشعب والوطن، وليس حزب طائفة..
حزب هيئات للفرد دوره فيها، وليس حزب الزعيم.. حزب نضال وعطاء وليس حزب العكس.
حزب الانسان، من اجل انسانية جديدة خالية من اسباب الظلم والاضطهاد والحروب.
لقد ارتبطت نشأته عام ١٩٢٤ بضرورة استكمال مسيرة التحرر من السلطة العثمانية، بالنضال ضد استبدال سيطرة خارجية بأخرى، من اجل استقلال لبنان. وقد قام الحزب بدور بارز في النضال لنيل الاستقلال، خصوصا في تكوين المؤتمر الوطني، ودور قائد الحزب فرج الله الحلو الذي كلّفة المؤتمر بقيادة التعبئة الشعبية. فامتلأت شوارع وساحات بيروت والمدن والمناطق اللبنانية، من ١٢ تشرين الثاني 1943 الى ٢٢ منه. فأرغمت سلطة الانتداب على الاقرار بالاستقلال، واطلاق المعتقلين في قلعة راشيا الوادي.
وكان في عضوية المؤتمر الوطني إلى جانب فرج الله الحلو، الرفاق، ارتين مادويان عن الأرمن، ومصطفی العريس عن النقابات العمالية، وانطون ثابت وجورج حنا من الشخصيات المهنية والوطنية والثقافية. وكان للحزب في معركة الجلاء إسهامٌ بارز أيضا، من خلال دور نقولا الشاوي والتنسيق مع الوفد اللبناني الرسمي، وبخاصة مع الحزب الشيوعي الفرنسي والبريطاني، والصلة بالمندوب السوفياتي في مجلس الأمن. فكان فرض الجلاء من لبنان عام ١٩٤٦. وفي مرحلة الخمسينيات خاض الحزب معركة حماية الاستقلال ورفض ربط لبنان بحلف بغداد وبمبدأ أيزنهاور، في وجه سياسة الرئيس كميل شمعون. وكان الموقف الوطني والتحرري العربي، في موقف القائد فرج الله الحلو بشأن اعتبار فلسطين لشعبها، رافضا القبول بتقسيمها. وقد استكمل هذا الموقف بما أقره المؤتمر الثاني للحزب عام ١٩٦٨، وبالموقف الشيوعي المناهض لممارسات قتل الفلسطينيين في السبعينيات وضرب نضالهم دعما لتحقيق عودتهم إلى وطنهم، وضد كل ما يخدم الكيان الصهيوني الطامع بأرضنا ومياهنا، والمتآمر لإفشال وتخريب التعدد في مجتمعنا. وإن ما ينطلق منه الحزب في الوقت نفسه، هو اعتبار مصلحة وطننا وشعبنا هي الأساس وفوق غيرها. هذا مع أن ظروف الحرب الأهلية وشراستها، لم تتح تظهير ما كان من تباينات بين موقف الحزب وقيادات في الثورة الفلسطينية. فما كان يغلب في ظروف الحرب الأهلية هو التقاطعات والتحالفات... لقد أقدم الحزب على إنشاء الحرس الشعبي في القرى الحدودية، للجم الكوماندوس الإسرائيلي من خرق حدودنا وقرانا والتنكيل بمنضاليها، كي لا يبقى الخرق بمثابة نزهة، خصوصاً دون أي رد من سلطة النظام. وكان الدور الوطني الأكبر، إطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، التي وقع بيان انطلاقها جورج حاوي أمين عام الحزب، ومحسن إبراهيم أمين عام منظمة العمل الشيوعي. فكان للشيوعيين شرف الريادة في شق طريق التحرير، وفرض الانسحابات المتتالية على جيش العدو، وتحرير ٧٢٪ من أرضنا المحتلة في نيسان ١٩٨٥. فإن الحزب الشيوعي بمبادئه وأهدافه، وبتركيبته البشرية العابرة للطوائف، يجسّد وحدة الوطن وليس الطائفة والطوائف. وهو نقيض الدولة الطائفية وتحاصصات النظام، الذي بعد مئة سنة على إنشاء لبنان، منعت تحوّله إلى وطن ودولة ديمقراطية.
أما الوجه الاجتماعي لنضال الحزب، الذي لا ينفصل عن الوجه الوطني، فقط كان هدفا مباشرا لعمل الشيوعيين. فهم أمناء على تمثيلهم مصالح وحقوق العمال والطبقات الشعبية. وكان تركيز الحزب على إنشاء نقابات مهنية مستقلة عن أرباب العمل وسلطة الانتداب، التي كانت تضغط لجعل النقابة تضم العمال وأرباب العمل معا. وتبين الوقائع أن الشيوعيين النقابيين استطاعوا في الثلاثينيات، تأسيس العديد من النقابات المهنية المستقلة عن أرباب العمل التي قامت بالعديد من الإضرابات للحصول على مطالب وحقوق معينة. من عمال المطابع إلى الكهرباء، وسكة الحديد، والسواقين، إلخ... وكثيرا ما كانت هذه الاضرابات تواجه بالضغوط والملاحقات. وأثناء إضراب السائقين عام 1935، سقط أول شهيدين للنضال الاجتماعي، هما نمر الرموز، وحبيب دياب، من أنطلياس، ودهستهما سيارة وقفا في طريقها منعاً لكسر الإضراب. وعندما انتهت معركة نيل الاستقلال، بدأت مباشرة المعركة الاجتماعية العمالية والنقابية. واستطاع النقابيون الشيوعيون والمتعاونون معهم، تشكيل الاتحاد العام لنقابات العمال والمستخدمين، بقيادة مصطفى العريس. ونشأت تحركات عمالية ونقابية وإضرابات للمطالبة بقانون عمل لبناني يكرس حقوق العمال. وفي الإضراب الكبير عام ١٩٤٥، انتزع العمال إقرار قانون العمل الذي أصبح نافذا عام ١٩٤٦. وهو القانون الأول في المنطقة، والناظم للعلاقة بين الأجراء وأرباب العمل حتى اليوم. كما حقق العمال يوم اول ايار عيدا رسميا أواسط الخمسينيات، ثم الضمان الاجتماعي عام 1963.
لقد قام الحزب الشيوعي مع العمال والشباب والطلاب والمستأجرين وغيرهم، بدور نضالي جماهيري صاعد ردا على أزمة النظام وانعكاساتها السلبية على معيشة أكثرية شعبنا، في أواخر الستينيات وأوائل سنوات السبعين. وبدلا من تجاوب السلطة وتلبية المطالبة بإصلاحات اجتماعية، وتدابير لحماية الوطن، كان القمع والرصاص على العمال والمتظاهرين من جهة، وعلى الفلسطينيين من جهة أخرى. فسقط ثلاثة شهداء من عمال معمل غندور، وثلاثة من تظاهرة مزارعي الدخان في النبطية عام 1973. ثم اغتيال القائد الشعبي معروف سعد على رأس تظاهرة صيادي الأسماك وفقراء صيدا، في شهر شباط ١٩٧٥. وكان دور ميليشيا المشروع الطائفي الكتائبي، مترافقا مع القمع المذكور.
فشكّل ذلك دليلا واضحا على اعتماد قوى السلطة خيار الحرب الاهلية بدلا من الاصلاح. ولكن استخدام الشحن الطائفي هو الوسيلة والسلاح لجعل الصراع بين اللبنانيين، وطمس جوهره الاجتماعي الطبقي والوطني.
ومع ان الحركة النقابية الموحدة استطاعت وقتئذ ان تحشد عشرات الالاف ضد الحرب وضد تقسيم لبنان، غير ان اطالة هذه الحرب لأكثر من ١٥ سنة، وتوقّف الكثير من المؤسّسات العمالية، ادّى الى تغيير كبير في الجسم العمالي. فكثيرون خرجوا من العمل، اما بالهجرة او بعامل السّن والبطالة وترافق تقلص حجم الطبقة العاملة، خصوصا بعد تدمير وسرقة مصانع على يد الاحتلال الصهيوني، بوافدين من الارياف، لا يمتلكون تجربة العمل النقابي، ويتأثرون بزعيم الطائفة، اضافة الى طغيان اليد العاملة الرخيصة من خارج لبنان. وقد كان لجوء الاطراف السلطوية اواخر التسعينات، الى استخدام القوى الامنية لفرض قيادة للاتحاد العالمي العام تابعة للسلطويين، عن طريق تفقيس اتحادات نقابية مزوّرة، وقمع سلطوي مكشوف، ضد القيادة النقابية الشرعية، بغرض اطلاق ايدي الطبقة السلطوية وشركائها الماليين والمحتكرين، وتفشّي الفساد دون محاسبة، وللاستغلال الوحشي للشعب وسرقة ودائعه والمال العام، ولاستخدام سلطة الدولة لقمع الحركة الشعبية وتعطيل الدور النقابي.
لقد كرّر الحزب الشيوعي بعد توقف الحرب وطيلة السنوات، ضرورة عقد مؤتمر مصالحة وطنيّة، ليست بين اشخاص بل مصالحة مع الوطن وقضايا الشعب وحاجاته.
لكن امتناع الطبقة السلطوية عن ذلك، شكّلت تعبيرا عن رفضهم تحقيق الاصلاحات الضرورية والامعان في فسادهم، وابقاء اسباب الانقسامات والحروب الاهلية وشلل السلطة قائماً. مما اوصل البلاد الى الانهيار الذي نشهده. واذا ما كانت الانتفاضة الشعبية في ١٧ تشرين 2019، وما سبقها من تحركات جماهيرية، قد جسّدت حجم النقمة الشعبية، ورفعت منسوب الوعي افقيّا مترافقا مع جرأة شعبيّة جديدة، فإن روح هذه الانتفاضة لم ولن تزول، بل يستمرّ بقاؤها طالما بقيت الازمات وحالة البؤس التي حلّت بالشعب والبلاد، وبقيت معها الطبقة السلطوية ونظامها الطائفي التحاصصي.

ان ما يدعو اليه ويناضل من اجله الحزب الشيوعي، هو توحيد القوى الاجتماعية والنقابية والسياسية المستقلّة، في اطار يوحّد التحرك الشعبي الذي يبرز بأشكال متنوعة، منها الإضرابات التي تشمل قطاعات ومجالات عديدة، والاعتصامات والنشاطات الجماهيرية المناهضة لسياسات السلطة ونظامها، وصولا الى تحويل الانتفاضة والنقمة الشعبية المستمرة الى ثورة تطيح النظام الطائفي وطبقته السلطوية، وتحقيق تغيير حقيقي لا يقتصر على الاشخاص والاسماء. فكما ان الحزب الشيوعي هو حزب الوطن، فانه حزب الشعب اللبناني بعمّاله ومزارعيه والجمهور الواسع للطبقة الوسطى.
فهذا الحزب الذي نشأ منذ ٩٨ سنة، يواصل نضاله الوطني والاجتماعي بروح الشباب ودورهم في التغيير، وفتح طريق المستقبل. فهو ليس حزب الماضي النضالي الذي يفخر به كل شيوعي وكل وطني حقيقي، بل حزب المستقبل ايضا.. حزب التغيير والتطور الديمقراطي المفتوح.

_ تحيّة لذكرى تأسيس هذا الحزب ولمؤسّسيه
_ المجد لشهداء الحزب الذين سقطوا في المعارك الوطنية والاجتماعية 

  • العدد رقم: 409
`


موريس نهرا