النداء تودع صبحي زعيتر

 "قالت لي: لم لا تاتي؟

قالت لي: لم لا تبقى؟

قالت لي: لم لا تضحك؟

قالت لي: لم لا تموت؟

اتيت

بقيت

ضحكت

ومت"

ناظم حكمت

خلال العمل على العدد الخاص بعيد "النداء"، عدنا إلى الأرشيف، وانتقلنا من إسم إلى آخر، وأرشدنا زملاء ورفاق إلى أسماء لم تجد لها مكان بين النجوم. وضعت أمامنا ذكريات، محطات وأشخاص، حاولنا قدر المستطاع الوصول اليهم.

 

في ذلك اليوم الممطر من شهر شباط، قابلنا صبحي زعيتر في إحدى مقاهي الحمرا، وكان الهدف الغوص بشخصية الراحل سهيل عبود. طال الحديث إلى تجربة زعيتر الشخصية والصحافية والحزبية. حرص زعيتر على الاستفسار عن تفاصيل العدد، وعن زملائه المشاركين، سرد ذكرياته معهم، في عودة الى أيام كان الواقع أجمل، كما وصفه.

عاد صبحي زعيتر إلى يوم كان طالباً في الجامعة، شارك في النشاطات الطلابية في كلية التربية في اللبنانية، التي كانت ملتقى الطلاب الحزبيين. كان هناك مجموعة كبيرة من الطلاب الشيوعيين في الكلية، سعدالله مزرعاني والياس عطالله وحنا غريب وغيرهم.

اندلعت الحرب الأهلية، وأجبر سهيل على ترك قريته جاج في جبيل والتوجه الى بيروت. دخل إلى "النداء" عام 1975. بدأ عمله كمراسل في القسم السياسي، ولاحقاً انتقل إلى القسم المحلي، والذي كان يتقاسمه بضعة أسماء مداورة. لاحقاً توسعت الصحيفة من 4 صفحات إلى 8 و12، وباتت تصدر مع ملحق أسبوعي يشبه المجلة. بات سهيل مسؤول القسم السياسي بعد أن تحول المسؤول السابق طانيوس دعيبس للعمل في "صوت الشعب"، عام 1987.

في المكاتب القديمة للصحيفة في منطقة المزرعة، كان هناك غرفة ينام فيها الصحافيون، سهيل عبود، وصبحي زعيتر، وأحمد طقشة وابو وضاح، وجهاد رزق وخطاط اسمه جان عاد.

 

وصل الشاب البقاعي إلى بيروت ليتابع دروسه في كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية في بيروت. نشط حزبياً مع الحزب الشيوعي، فكان أن طلب منهم في صيف عام 1974 التطوع للمساعدة في جريدة "النداء". ذهب صبحي زعيتر، الى جانب أسامة الزين وادوار الراسي الى مكاتب "النداء"، لكن اداور قرر العمل مع "الأخبار" التي كانت تصدر اسبوعياً. كان الهدف التعلم وليس المنافسة.

عمل صبحي بشكلٍ متقطع مع "النداء" لثلاث سنوات، تعلم خلالها صياغة الخبر، من أين يبدأ وأين ينتهي. بسبب الدوام الصباحي في الجامعة، عمل في قسم العربي الدولي مساءً، وكان يختصر الأمر على استحصال على الأخبار من الوكالات وكتابتها.

كانت الصعوبة في النزول إلى الأرض. أول تقرير كتبه كان حول الضمان الاجتماعي في الدورة، حيث كان هناك مشكلة بين الضمان والعمال حول الرواتب والتعويضات. يومها لم يكن هناك وسائل نقل ولم يكن قادراً على التوجه إلى هناك. أتى أحد الشباب النقابيين اسمه، ابو جمال، استشهد لاحقاً على أيدي مؤيدي كمال الأسعد، وكان هو يمتلك دراجة نارية، اقله إلى الدورة. ولم يكن هناك مصورين فصور هو. كان أول تحقيق ينشر في "النداء"، إذ كانت سابقاً أخبار محلية ووكالات. أحب يوسف خطار الحلو التحقيق كثيراً، ويومها عرف ان من يريد أن يعمل في الصحافة يجب أن ينزل إلى الأرض.

 

بدأ العمل كموظف بعد أن تخرج من الجامعة عام 1976، وكانت قد بدأت الحرب، وكانت صدفة، إذ كان ينوي السفر إلى ألمانيا الغربية. جهز جواز سفره، وذهب إلى "النداء" ليودع الجميع، وكان هناك سهيل طويلة وحنا صالح وملحم بو رزق، الذين اقنعوه في البقاء والعمل معهم في "النداء"، وكان هذا عرض سهيل طويلة. لم يكن مقتنعاً في الهجرة، فكانت هذه الحادثة سبب إضافي ليبقى. بقي في "النداء" حتى اقفلت، بعدها توجه إلى السفير. خلال هذه الفترة تزوج وعندما انتقل الى "السفير" كان أولاده صلوا الى المرحلة الجامعية، وبات المصروف أكبر، فوصله عرض عمل في السعودية، ورغم رفضه الذهاب إلى هناك، لكن كان ملزم.

 

عمل في جريدة "الوطن" السعودية منذ عام 2001 حتى عام 21 كانون الأول 2012، لأنهم فسخوا العقد معه لأسباب لا يعرفها. عاد إلى لبنان وبقي حتى شهر تموز، حيث قدم له عرض عمل في "القبس" الكويتية من قبل د. أحمد طقشة، وكان هو مدير تحرير. بقي هناك ثلاث سنوات، حيث تعرض لعارض صحي في القلب، وعاد إلى لبنان منذ عام 2016.

بعد استقراره في لبنان بدأ العمل على كتابة تجربته في السعودية، لأنها كانت تجربة أغنى، حيث كان مسؤول القسم السياسي، وهو موقع موازٍ لمدير تحرير. عمل على كتاب حول تلك التجربة، وتردد في نشره لأنه قد يضر بعدد من زملائه، لأنه أدرك أن سبب طرده له خلفيات سياسية، وقال بحرقة "بات الكتاب جاهز، لكن المشكلة أنه لم يكتب من موقع إيجابي، لأنه فجأة قالوا لي اجمع أغراضك وارحل خلال 24 ساعة".

 

خلال اللقاء لام زعيتر صديقه سهيل عبود لإهماله صحته الذي أدى الى رحيله مبكراً، وعاد ليقول ساخراً "هذه المهنة ستقتلنا". رغم سيطرة الإنسان على كافة مناحي الحياة، بقي عاجزاً أمام جبروت الموت. أمس رحل صبحي زعيتر إثر نوبةٍ قلبية. عرفناه لفترة قصيرة، لم يعتد بنفسه، لم يعظم تجربته، بل أشار إلى نجاح زملائه. نفقدهم واحداً تلو الاخر، تودع "النداء" أبنائها، دخلوا اليها شباب متحمس وتوزعوا الصحف والمجلات، ولم ينتفضوا على صحيفتهم، رغم أي اختلاف سياسي ومهني. تودع "النداء" صبحي الزعيتر، هو الذي لم يتوانى للمساعدة بتقديم التحية والحب للصحيفة التي عرفها منزله وعمله وملتقى رفاقه وأصدقائه.