رحيل فيصل فرحات: ذكريات موجعة ومحطات كبرياء ومودّة

يقول فيديل كاسترو:
غالبا ما تمنح العقوبات إلى الفقراء والأموال للأغنياء ...

كم هذا الكلام صحيح ونافذ في العقل والوجدان وكم توزّع الظلم بالمجّان ودون هوادة!
أما الحقيقة المرّة؛ فهي تلك الحقيقة التي تلقى هجوما واستهجانا من كثر وعن سبق تصور وإصرار، بيد أنها تبقى حقيقة ولا تتبدل، حقيقة مجهولة عالقة في الحلق، تخنق وتربك وتقلق وتظلّ في كلّ الأحوال تؤلم وتستقطر العلقم والقهر.

عرفت فيصل منذ أكثر من ثلاثين سنة، إذ قابلته رفقة صديق فنان نحّات هو الآخر ، صديق العمر والذكريات، مروان صالح، ابن كفور العربة الذي رحل أيضا باكرا وباكرا جدا بمرض اللوكيميا الخبيث الذي ينتقم من كل أحرار هذه الدنيا وكأنه قاتل مأجور!! عرفّني مروان على فيصل وجلسنا نحن الثلاثة وما هي إلا نصف ساعة وصرنا نتحادث ونمزح وكأننا أصدقاء طفولة، أو رفاق مدرسة أو أبناء حيّ واحد أو قرية ! ..
فيصل في تلك السنوات البعيدة، ومع كل الجهامة والصعوبات التي كانت تحيط به وتربكه وتتعبه، وكل المشاكل الحياتية التي كانت تحاصره بشكل متكرر من دون راحة، كان شخصا مرحا ومحبا، دائم الابتسام والتعاطف والألفة والصداقة المحبّذة دائما للجلسات الطويلة. أينما تراه جالسا، تجده يحيط به أسوار من الأوراق والمخطوطات والأقلام والكتب، قلم رصاص في جيب القميص إلى جانب قلم حبر معطل نسي أن يرميه وآخر حبر في جاكيتته الشهيرة من دون أكمام ذات الجيوب المتعددة حيث أوراقه واغراضه لكل المهام إلى جانب علب الدخان والقداحات، عدّة العمل، والتناوب على شرب الشاي والقهوة، وما هي إلا نصف ساعة حتى تصبح مثله تشرب من المعينين وتلتذّ بالقهوة والشاي وكأنك تشرب اكسيرا سحريا من عصير الآلهة !!
كنت أقول له احسدك على قدرتك على الكتابة ليلا نهارا وبقدرات هائلة ومن دون توقف، فكان يبتسم ويقول لي: بكرا بتشوف رح تكتب أكثر وأحسن منّي... فكنت انظر اليه غير مصدّق.. فيضحك وكأنه أدرك عمق أفكاري من دون أن أتكلم؛ ميزة هذا الرجل هي الطيبة اللامحدودة وقدرته على التحمل وعدم التذمر، طيبة القرية والمدينة في خلطة واحدة، وأشياء اخرى وصفات أخرى كثيرة لا أعرف كيف اعبّر عنها أو استحضرها الان، ولكن أهمّها أنّه كان دائما عندما ينظر إليّ اشعر أنّه كان ينظر إلى أعماق الروح ويدرك فعلا ما يختلج في الذات...
فيصل فرحات تجرّع الوجع والقهر بنسب كبيرة، وأكثر ما أثّر بي جملة بسيطة جدا ومعبرة جدا جدا للصديق الحبيب سليمان بختي قالها في مقالة، يوم رحيل فيصل:

كان حلمه أكبر من حياته، وكان يتعثر بلقمة العيش ويتابع ذلك الشقاء الجميل...

أجل لقد شاء القدر، هذا إذا كان هناك ثمة معنى لكلمة قدر في اوطاننا الملعونة، ان تكون حياة فيصل فرحات مجبولة بالشقاء إلى درجة أن الشقاء استحال إلى جمال بحدّ ذاته بعد أن صار لازمة يوميّة وأسلوب حياة لدى الكتاب والفنانين والمسرحيين، وكم تتعمّم هذه الحالة ولو بتفاوت في الدرجات ، على شعب بأكمله..!

في السنوات الماضية أي في الفترة قبل وبعد الكوفيد لم أعد على تواصل مع فيصل إلا نادرا وبالصدفة في معارض الكتب وخلال حفلات التواقيع، وفي كل مرة كنت أشاهد في عينيه معالم الوجع الذي يكبر، وألوم نفسي الآن بعد رحيله، أنني لم اتواصل معه أكثر ولم يتسنّ لي حتى قراءة ما كتبه في السنوات الأخيرة، لقد احالتنا الحياة إلى صنميّة قبيحة، ومحت من قلوبنا عاطفتنا واندفاعنا وانسانيّتنا واهم شئ على الإطلاق وأقولها من دون قيود وسدود وخلفيات ومعميات وبذهول وذبول :
لقد فقدنا جذوة الثورة ..!

لن أتكلم عن مسرحياتك وكتاباتك يا أخي فيصل وانت الآن في سديم الرحيل، اكيد هنالك من سيكتب ويقرأ ويهتم وليس ثمة أدنى شك في ذلك، ولكن سأقول لك أمرا، قالوا عنك انك مت في غرفة فوق السطوح، وأنا وعلى الرغم مما سوف يقال؛ احسدك على هذه الميتة! مت كواحد من طيور النوارس التي تذهب طائرة، حيث يحلو لها من دون حسيب أو رقيب، على الأقل متّ حرّا، منعتقا من كل قيود وسلاسل هذا الوجود المقيت والنافر، حرّا من كلّ لوثات هذا البلد وكلّ ما يمثله، على الأقل كنت بعيدا عن عيون الناس الحيوانيين بفراغها الشيطاني، اكفانك اوراقك وكتبك وملائكتك ذكريات وأحلام لم تكتب بعد بيد أنها مرصودة في قلب الزمن وقلب النهايات كما قال ث.اس .ايليوت ...
يلا نقوم نشرب شاي ونولّع سيجارة...

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 413
`


أنطوان يزبك