الدولة العلمانيّة هي الحل

في ظل الإفلاس الذي يعيشه لبنان على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وفي ظل التشنج الطائفي المُتجدد على ساحته، والذي يحصد، عند كل توتُّر على الأرض، ضحايا بريئة، يتجدّد النقاش حول طبيعة وشكل النظام الأنسب لحماية لبنان وتطوير مُجتمعه وإنسانه.
وفي هذا الصدد، تعود إلى العلن شعارات قديمة جديدة تتداولها الطبقة السياسية الحاكمة، منها الإيجابي، كالمطالبة بقيام "الدولة المدنية"، رغم أنّ من يتبنى هكذا شعار من الزعامات لم يقرن تبنيه هذا بخطوات ملموسة بهذا الإتجاه، ومنها شعارات أخرى تناقض هذا الشعار، كطرح "الفيديرالية" بما تحمله من فرز وتقسيم لا يمكن أن يتحمّلُه الوطن، إلى شعارات مُستجدّة طرحت مُؤخّراَ خيار قيام "دولة الحياد"، بحجة رفض التبعيّة للـ "خارج" الإقليمي أو الدولي.


رُفِع شعار "الدولة المدنية" كطرح في إطار المزايدات السياسية بين الفرقاء في السلطة، بينما ظهرت الطروحات الأخرى كمشاريع "ترميميّة" و"ترقيعيّة" لنظامٍ طائفي أثبتت الأيام هشاشته وأثبتت التجربة فشله.
في هذا الإطار، لا بد من تذكير أصحاب المشاريع القديمة والجديدة، بالحقيقة التي لطالما حاولوا تجنبها والتهرب من الاعتراف بها، وهي أنّ خلاص لبنان من الطائفية والفساد والمحاصصة والتبعيّة للخارج لا يكون بقيام دولة الحرب ولا بدولة الحياد، ولا بالدولة الطائفية أو بالدولة الفيديرالية. خَلاصُه، وتحديداً اليوم، لا يمكن أن يكون إلا ببناء أسس "الدولة العلمانيّة".
فالنظام العلماني هو النظام الذي:
- يُؤكد استقلالية علاقة الدولة بالأفراد عن أي علاقة أخرى تربطهم بأي معتقد أو دين، ومضمون هذا النظام هو الحيادي بمعناه الإيجابي تجاه الأديان والمعتقدات كافة.
- يُعيد الاعتبار للمواطن كقيمة إنسانية، فلا يُميز بين فرد وآخر داخل المجتمع، ويُخرِج المواطنين تدريجياً من انتماءاتهم للزعامات الطائفية، ويُعيدهم إلى انتمائهم الوطني.
- يسمح بتطوير منظومة العمل السياسي في لبنان التي لطالما اعتمدت على "سياسة الأشخاص" و"سياسة المصالح"، اللتين مُورستا من قبل السلطة التي تحكّمت بالدولة وصادرت مؤسساتها لأعوام طويلة وأوصلتها إلى ما وصلت إليه من فشل وفساد وسرقة واهتراء في مؤسساتها، ليتحول اعتمادها على "سياسة القضايا" حيث القضية هي المحور في البناء القائم على تشارك الأفراد ومساهمة هؤلاء في إقتراح وتنفيذ سياسة تُلبِّي حاجات المجتمع، والمشروع لا يتعلق بشخص مُعيّن أو رمز أو زعامة، بل يقوم ويستمر برغبة التعاون عند جميع الأفراد "المواطنين".
- يختار أصحاب الكفاءات لملء الوظائف العامة الشاغرة، ولا يُميز طائفياً فيما بينهم ولا يسمح بتعيينهم بالواسطة أو بالمحسوبية.
- يحمي حرية المواطن في استعادة حقوقه الإنسانية داخل وطنه، وفي أن يكون مُؤمناً أو لا أدرياً أو مُلحداً، دون أن يُحاسبه على إيمانه أو انتمائه، شرط أن لا يشكل انتماؤه الخاص خطراً على حقوق الأفراد المُتساوية داخل الدولة.
***
ولا بد هنا، وبعد أن أعاد البعض طرح مشروع الدولة المدنية على الساحة اللبنانية في الآونة الأخيرة، مِن إيضاح الفرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية:
تشتق كلمة "مدنية" من كلمة "مدن" أو "مدينة"، وهي الحالة التي يصل إليها الناس عندما يتركون البداوة وقبائلها، ويجتمعون على تأليف مجتمع مُوحّد يرتفع فوق مصالح العشائر والقبائل الفئوية. وقد استعملت كلمة "المدنية" بمعنى الحضارة العصرية المُتطورة في اللغة العربية (فالمُتمدن ضد المُتخلف)، كما جرى تداول هذه الكلمة في عناوين "التربية المدنية" والتنشئة المدنية" و"الزواج المدني" للدلالة على الصفة الجامعة لهذه العناوين بين عامة الناس أو عامة المواطنين.
وإذا كانت "الدولة العلمانيّة" تبني علاقتها بالأفراد على أساس هويتهم الانسانيّة، وترفع مبدأ احترام إيمان الأفراد وحريتهم في التفكير والتعبير، ومبدأ تمتعهم بحقوق متساوية أمام القانون، ومبدأ استقلال علاقة هؤلاء بدولتهم عن أي تدخّل ديني في شؤونها، فإنّ "الدولة المدنية" تتبنى المبدأين الأولين الآنفي الذكر، بينما تتوسع في تطبيق المبدأ الثالث بحيث تسمح بأن تُستمد بعض المبادئ التشريعية فيها من المصادر الدينية.
فيصح مثلاً في الدولة المدنيّة أن يُستوحى القانون المدني الذي يُنظم الأحوال الشخصية للمواطنين في عدد من مواده من تعاليم إحدى الديانات، بشرط أن يُطبق هذا القانون على جميع مُواطني الدولة بدون استثناء، وهذا شرط أساسي، لأنّ سماح الدولة المدنيّة بوجود قوانين مُتعددة ترعى نفس الموضوع ويتوزع تطبيقها على الأفراد داخل المجتمع كلٌ بحسب انتمائه الديني، يُحوِّلها إلى "دولة طائفيّة"، ففي الدولة الطائفية تتعدد القوانين التي تتناول شأناً واحداً بتعدد الطوائف التي ترعى هذه القوانين.
تضع الدولة المدنيّة إذن أولى الخطوات للإنتقال من المجتمع القبلي والطائفي إلى المُجتمع المتمدن، فتُهيء الاندماج والتوحد في قالب المواطنة الذي يضم جميع أفراد المجتمع.
أما الدولة العلمانية، فتُؤسس لمرحلة أكثر تطوراً، تكون فيها القيم الإنسانيّة مصدر التشريع داخل الدولة، فتقبل وتتبنى هذه الدولة القيم الدينية في كل ما يتوافق مع هذه القيم الإنسانيّة العامة، وتمنع بالمقابل، أي توجُّهات تمييزية وفئوية قد تُحاول بعض المجموعات الطائفية أو العنصرية انتزاعها وفرضها على الدولة.
إنّ سماح الدولة المدنية بتبنِّي قوانين ذات مصادر دينية في تشريعاتها، لا شك يُؤدي إلى إخضاع بعض الأفراد داخل هذه الدولة (كالأقليات الدينية) إلى مبادئ دينية غريبة عنهم، لمُجرّد أنّ هذه المبادئ فُرِضَت عليهم بحكم سريان تطبيقها على جميع أفراد المجتمع.
أما في النظام العلماني فلا مكان لهذا التمييز، لأن هذا النظام، وكما سبق وأشرنا، يستمد تشريعاته من القيم الإنسانيّة العامة التي هي الضمانة لحماية المعتقدات الدينية المتنوعة لدى الأفراد، ومن هذا المنطلق، تتقدّم الدولة العلمانية على الدولة المدنية في سُلّم الأنظمة الأكثر ضمانة للمساواة بين الأفراد.
***
في الدولة العلمانية إذن، تكمن أسس الدولة القوية وأسس دولة المواطنة والمؤسسات، وكل حديث عن نظام يحمي لبنان تحت تسميات نظام مُحايد أو مُواجه أو مُهادن أو مُناصر لن يُعيد الحياة إلى الوطن المدمر والمريض.
بات المواطن اليوم يُدرك مصدر إحباطاته وأسباب مصائبه، ولا يجب أن يسمح للطبقة السياسية الطائفية الحاكمة أن تستغله من جديد بأساليب وأدوات جديدة، أو تحت غطاء الولاء للطائفة أو للزعيم، أو الخوف من المواطن الآخر داخل الوطن.
كل ما جرى في لبنان حتى اليوم، ظهّر حقيقة هذه الطبقة السياسية ومساوئ هذا النظام الطائفي، ولا بديل لكل من اختار أن يكون مواطناً في وطنه، عن الضغط المستمر والعمل من أجل محاسبة ومحاكمة مُجرمي الفساد والسياسة والحرب. ويجب أن تستمر الانتفاضة الشعبية بجميع الوسائل والأشكال الممكنة بالتوازي مع العمل الذي أنطلق ويجب أن يتراكم من أجل تشكيل حراك وطني لا طائفي ولا عنفي يتوجّه إلى اللبنانيين بخطاب إصلاحي موحد وجديد يمكن أن يبعث الأمل في النفوس وينال ثقة الناس ويُشكّل لهم بديلاً حقيقياً نظيفاً وصادقاً يتطور مع الوقت ليتحول إلى حالة سياسيّة جديدة في البلاد تطرح مشروعها السياسي الإنساني، مشروع "بناء الدولة العلمانية"، وتخوض الانتخابات النيابية في مواجهة الاصطفاف السياسي الطائفي التقليدي الذي حكم لبنان منذ أعوام طويلة.
الدولة العلمانيّة هي الحل، وقد آن الأوان للتيارات السياسية وللحركات الطلابية العلمانية والمدنية واللاطائفية ولقوى المجتمع المدني وللناشطين العلمانيين المستقلين أن يحملوا لواء العلمانيّة بوضوح أكثر، ويرفعوه بثقة، ويُنادوا به اليوم كمشروع إنقاذي وحيد للبنان المريض.