عن التبعية والتطبيع

 

من الواضح أن الدول العربية التي لم تستطع الفَكاك من تبعيتها للغرب، أو ربما لم تحاول، قد استمرأت هذه التبعية، وأصبح من السهل عليها تنويع أشكالها، حتى لم تجد غضاضة في التطبيع مع عدوها، الذي إن كان لا يرى فيها سوى تابعاً، فإن قوته الاقتصادية والعسكرية ستجعل منها كذلك لا محالة. ولا يمكن نكران حقيقة أن الكيان الإسرائيلي الذي اتفقت معه دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، أخيراً، على عقد اتفاق سلامٍ، أصبح قوةً استعماريةً تضاهي بعض القوى الاستعمارية الغربية بالقوة العسكرية والسطوة والنفوذ. واستناداً على قوته قدَّم هذا الكيان دليلاً على عدم سماحه لدول المنطقة بمجاراة هذه القوة، حتى لو كانت الإمارات المطبِّعة معه قبل أيام، فجاء إعلان قادته معارضتهم صفقة طائرات أميركية للإمارات، والمتزامن مع إعلان اتفاق السلام بينهما، ليثبت اعتباره الدول المحيطة به توابع لا أكثر.


يستمر الكيان الإسرائيلي، بصفته قوة استعمارية احتلَّت فلسطين وشردت شعبها وأحلت محلهم مستوطنين استقدمتهم من كافة بقاع العالم، يستمر في ممارسة أساليب الاستعمار الغربي، وفي الظهور بمظهر هذه القوة الاستعمارية من خلال ضمه الأراضي الفلسطينية والعربية لكيانه، واعتبار بقية الأراضي المحيطة ملكه الذي يخطط لاستعادته. ولذلك اتَّبع سياسة عدوانية في التعامل مع الدول المحيطة وأسس قوةً اقتصاديةً وعسكريةً وأمنيةً لكي تُبقي على تفوقه على الدول العربية معتمداً كافة السبل لمنع أسباب القوة عنها. وساعد الكيان الإسرائيلي، عند تأسيسه، للوصول إلى هذه المرحلة من السطوة استفادة البرجوازية الإسرائيلية، والتي تعد برجوازيةً صناعيةً، من إرث البرجوازية الأوروبية، ومن تقنياتها وخبراتها، لتأسيس الاقتصاد الإسرائيلي المتطور الذي ضمن تطور الكيان وتفوقه الدائم.
وعلى النقيض من برجوازية الكيان الإسرائيلي، بقيت البرجوازية العربية الحاكمة في الدول العربية برجوازيةً تجاريةً ماليةً، كما كانت قبل الاستقلال، ولم تحاول التقدم لتصبح صناعيةً تأخذ على عاتقها بناء اقتصاد متطور يستقل عن الاقتصادات الغربية ويساهم في استقلال القرار السياسي. وإذ كانت الدول العربية في كياناتها الحالية قد خرجت من رحم الاستعمار الغربي وفق خطط تقسيم المنطقة، فإن اقتصادها قد تأسس لكي يكون تابعاً لاقتصاد المستعمر، وفي حالات كثيرة مكمِّلاً له. ولم تحاول أنظمة عربية كثيرة، عبر سنوات نموِّها الاقتصادي، أن تحقق الاستقلال التام عن هذا المستعمر وعن اقتصاده الاستعماري.
أما من حاولت من هذه الدول التميُّز عن جيرانها بتحقيق ازدهارٍ ما، مالي أو عمراني أو إعلامي أو تقني، فقد اعتمدت على ثرواتها الباطنية في تحقيقه حتى استنزفتها، وأثَّرت على بيئاتها ودمَّرت اشكالاً من البيئة البرية والبحرية المحيطة ببلدانها. ولم تسخِّر هذه الثروات لاعتماد التنمية المستدامة التي تأخذ بحسبانها التقدم في المجال الزراعي واعتماد أشكال الطاقة البديلة، وتبنِّي اقتصاد صناعي متطور يغير من سياسة استيراد كل شيء، هذه التنمية الضرورية لمجاراة التطور في الاقتصاد العالمي. لذلك بقيت هذه الدول متخلفةً عن دول جنوب شرق آسيا، على سبيل المثال، والتي عانت حروباً تدميرية، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، والتي لا تملك ثروات باطنية وثروات مالية متكدسة، لكنها استطاعت عبر سنوات تطورها اعتماد تنمية مستدامة انعكست على مختلف مجالات تطورها العلمي والتعليمي والصناعي والتجاري والتكنولوجي والزراعي، حتى استحقت تسمية النمور الاقتصادية، وباتت الدول العربية أسواقاً شرهةً لمنتجاتها التي تغطي كل مجالات الحياة. على عكس هذه الدول، ولزيادة تبعيتها دمجت الدول العربية سوقها بالسوق الغربي، والأسواق العالمية عموماً، واعتمدت على هذه الأسواق اعتماداً كليّاً لتلبية احتياجاتها الأساسية والهامشية، حتى وصلت إلى مرحلة التبعية الصناعية والعسكرية والتكنولوجية لها بسبب تخلُّفها العلمي والتقني. كما تبنَّت نمط إنفاق استهلاكي فاق نمط الاستهلاك الغربي، ما بدَّد ثرواتها.
كان يمكن لوجود الكيان الإسرائيلي، كياناً غريباً وعدوانياً بين الدول العربية، وبما يشكله من تحدٍّ وجوديٍّ لها، أن يكون حافزاً لها لاعتماد سياسات تنموية صحيحة، وبناء دولة مدنية عصرية وطبيعية تحفظ كرامة المواطن وحقوقه بعد تطبيق الدستور واحترام القانون وتفعيل العمل به. لكن على العكس من ذلك، أوقفت العمل بالدستور، وبات ما يصدر عن الحاكم هو الدستور، وخرقت القانون وفعَّلت قانون القوي، وصادرت الحريات والحقوق ونكَّلت بأصحاب الرأي الحر، حتى باتت هذه الدول تعد المواطن عدوها، وتتغاضى عن عدوها التاريخي الذي كانت تردد شعارات الصمود في وجهه لأنه يهدد وجودها.
وفي مرحلة متقدمة أصبحت تلجأ إلى القوى الغربية التي كانت تستعمرها، للحصول على شرعيتها منها، وحتى إلى عدوها التاريخي، الكيان الإسرائيلي، بدلاً من الحصول على الشرعية من شعوبها. وأصبح هذا النهج يكلفها أثماناً تدفعها للدول الغربية. كما تبقى متأهبةً لتلبية طلبات الدفع كلما أمعنت بقمع شعوبها، وحين تعجز، تلجأ إلى الحصول على القروض من بنوكها، وهذا مكمن الخطر عليها وعلى بلدانها لأنه يرهن مؤسسات الدولة الحيوية وقرارها الاقتصادي والسياسي، وحاضرها ومستقبل أبنائها، لهذه البنوك، كل ذلك للإيفاء بما تطلبه منها هذه الدول.
وبسبب انفصال هذه الأنظمة عن شعوبها ومعاداتها إياها، وبسبب عجزها عن تحقيق النهضة التي تؤسس لحياة متقدمة لهذه الشعوب، ثم بنائها اقتصادات هشة ومدناً هشة، وصل الأمر بها إلى التعاون مع عدوها الإسرائيلي، لكي تقوي موقفها تجاه شعوبها. لذلك، وقبل الإعلان عن التطبيع الأخير، خرجت التقارير الإعلامية التي تتحدث عن صفقات بين هذه الدول وبين الكيان الإسرائيلي لشراء برامج تجسُّس وتعقُّب لمواطنيها لمراقبة حياتهم وكشف أصحاب الرأي الانتقادي والمخالف، مهما قلَّ شأنه، وذلك خوفاً على كياناتها، بسبب فقدانها الثقة بنفسها وبما تعتبر نفسها أنها أنجزته.
يمكن لأي كان أن يخالف هذا الرأي ويقول عكسه، ولكن حين يفعل ذلك يكون قد أغفل تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وقادة كيانه حول معارضتهم صفقة طائرات الـ أف 35" الأميركية للإمارات. وقد قالوا ذلك بعد يوم من الإعلان عن اتفاقهم معها، ثم زادوا في القول إن الاتفاق لا يفرض عليهم شيء، ولم يقدموا شيئاً، إنه "سلامٌ مقابل السلام". واللافت أنهم لم يراعوا مشاعر قادة الإمارات وموقفهم تجاه تلك التصريحات، كذلك لم يشعروا بالحرج أمام "تضحيتهم" بالتطبيع معهم. ومع ذلك تبقى الإمارات على موقفها في الشروع في تطبيع العلاقات، ولا تراجع هذا الموقف، لتزن الأمور بميزان الربح والخسارة لمعرفة ما ستجنيه وما ستفقده. وهي لذلك لا تثبت سوى أن تبعيتها من العوامل التي سببت التطبيع، وستبقى من نتائجه.
* * *