فلتسقط العفوية في السياسة

تكاد تختصر حياتنا بالاجتماعات السياسية والندوات والتحركات المطلبية والتظاهرات الشعبية. ليس بالأمر السهل أن تقضي حياتك منهمكاً بآلام الشعوب ومعاناتها، خاصة إذا تواجدت بمكان لا تنتهي فيه المعاناة. يقولون أننا بعمر الثورة وفوران الدم وهيجان أفكار التغيير والتمرد، ثم يبررون رفضك الدائم للسائد من الأمور بأنك نمرود صغير ستكبر مع الأيام وتنسى. وكنت أنا في كل مرة أصرخ في تظاهرة وأفكر ما إذا كانت حنجرتي ستكبر مثلي.

لم يأخذني الأمر طويلاً حتى أسقطت النظرية من رأسي، حدث ذلك حين أعيَيْت أن التجارب السابقة ليست قاعدة اليوم، وأن من صرخ بالأمس قد خشي على حنجرته أمّا أنا، فلا!
ثم أن يكبر المرء وسط تشرّد شعبه وجوعه، أن يكبر وسط الآلام والمعاناة والظلم، أن يمر يوميّاً أمام طفولة ممزّقة على الأرصفة ثمّ ينسى، لهو أمر مذلٌّ ومستنكر، فليس للانسانية عمرٌ تسقط من بعده.
في فصل الربيع من عام ٢٠١٩، دخلنا في العطلة السنوية المنتظرة، حسبناها أيّاماً معدودة نعود بعدها للمقاعد ونتخرّج، ثم أعلن أساتذتنا الاضراب المفتوح بعد عودتنا بيوم واحد، علمت حينها أننا مقبلون على معركة تحتاج لنفس طويل وصبر جميل.
والجدير بالذكر، أن الاضراب أُعلِن لأن السلطة البائسة اليائسة انتقصت من حقوق الدكاترة ومن ميزانية الجامعة أربعين ملياراً تقريباً، علما انها انتقصت ٤٠ مليار السنة الفائتة.
لست في وارد إطلاع السلطة على حلولٍ أفضل من تدمير مؤسسةٍ وطنية من المفترض أن تكون عماداً له، أو في وارد تفنيد مزاريب الفساد التي تسد العجز إذا ما سُدّت. السلطة تعي تماماً كل ما قد أقوله ومع هذا تمشي باتجاه التدمير فتمنهجه.
كانت المعركة الأصعب برأيي بيننا كطلاب، ولا أسمح لنفسي أن أصنّف زملائي في جدول تقييمي، لذا فلنقل أننا كنا -جميعاً- حائرين لا نعرف أخذ القرار. السؤال الأكبر والأوّلي كان "هل نحن مع الاضراب أم ضده" وطبعا كانت النقاشات تبدأ نهاراً ولا تنتهي حتى آخر الليل، كنا نفكر ونحلّل ونستنتج ومع هذا انقسمنا في مواقفنا.
من عارض الاضراب، عارضه خشيةً على مستقبله الذي حصره في سنةٍ منهجية وشهادة لا قيمة لها في بلدٍ تحكمه سلطة كهذه ولا يلقى اللوم على عاتقه، كما عارضه كرهاً لأساتذتنا وحقداً عليهم. وبعض أساتذتنا يتحمّل مسؤولية هذا الكره، إذ عليهم أن يعوا أن الطلاب ليسوا حقّاً أبناءهم يخطئون في حقهم فيسامحون. من عارض الاضراب عارضه لأنه اختار أن "يتخاذل بدل من أن يُخذل" وليس ملاماً.
وفي الواقع يتحمّل الدكاترة مسؤولية كل أفكار طلابهم التي ارتدّت عليهم. فمن يفضل استغلال محاضرته بالكامل لشرح مناهج بالية بدلاً من تعبئة طلابه ضد سلطة تنهش مستقبلهم، ومن يفضل أن يظهر انتماءه السياسي وتعصبه أمام طلابه، سيفقد حتما أي مصداقية إذا وقف فجأة ضد من كان معه. وهنا لست في وارد التنظير على أساتذتي أيضاً، ولكنني حتماً بوارد إنذارهم لما يفعلونه.
من وقف مع الاضراب وقف معه لأنه يدرك أن حنجرته لا تتعب، من وقف مع الاضراب يدرك أن عاماً يمر بلا شهادة أفضل من عمرٍ بلا جامعة، من يقف مع الاضراب يعلم أن المعركة اليوم باتت طلابية على اثرها يجب التحرير الكامل للوطن، من وقف بالأمس ويقف اليوم مع الاضراب خُذل مثل غيره في السابق ولكنه "محكوم بالأمل".
إذاً في المرحلة الأولى كان علينا تحديد موقفنا بوضوح من الاضراب، إمّا معه أو ضده، ولكن لا يسع المرء أخذ موقف دون العمل به. المهمة الأساسية اليوم، وبعد تحديد الموقف، هي وضع استراتيجية وخطة عمل تنقذ الحركة اليوم من أسوأ السيناريوهات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن وقف الاضراب قد لا يكون الأسوأ. إن ساعات من الاجتماعات والمناقشات دون الخلاص إلى وجهة واضحة الأهداف والخطوات وواضحة الفكر والمعايير التي قيست الأمور عليها، لهي مضيعة وقت واستنزاف للجهود.
ولا نقسو على أنفسنا إذا قمنا بين الحين والآخر بنقد تجاربنا والبناء على نتائج هذا النقد. اذ أننا في كل مرحلة مفصلية للبلاد نقع في وهم "الثورة". من يراهن على يقظة بعض الطلاب وحماسهم عليه أن يستيقظ هو، إذ آخر مرة راهننا وخسرنا كانت منذ أعوام قليلة.
نحن لم ولن نكون إصلاحيين، لا نبني تحرّكاتنا على أساس وجود مطالبٍ آنية قد تحققها السلطة لنا اليوم وتأخذها غداً، إمّا أن نكون تغيريين أو فلنجلس في بيوتنا متجنّبين صدماتِ إخفاقنا للمرة الثانية في ظرف سنين قليلة.
الابتعاد عن العفوية هو عنوان المرحلة المقبلة، فلنأخذ العبر من مباريات كرة القدم، من يلعب كدفاع ويراهن على الهجمات المرتدة يسقط عند أول هدفٍ يسجّل فيه ، لذا فلنبتعد عن الرهانات ولندرس الفريق المواجه، لنضع استراتيجية هجومية، متجنبين الفراغات في الدفاع. فلنتذكر دائماً أن في المدرّجات جمهوراً كبيراً يراقبنا، لا مجال لتضييع الوقت وإلّا انبهَ الحكم لطردنا من اللعبة.

  • العدد رقم: 360
`


ريم الخطيب