أسانج و دول التوحّش

"ليس أمامنا سوى أن نقاتل أو ننتظر الإبادة"
من خطبة لزعيم المقاومة الهندية تيكومسيه في أول القرن التاسع عشر

يفتتح أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة منير العكش كتابه “دولة فلسطينية للهنود الحمر” بهذه العبارة كتمهيد لما سوف نرتاب منه في ظلّ تصفّحنا للدراسة التي عاينها حول حضارة أزيلت عن بكرة أبيها في ظل عصرٍ سميّ بعصر الأنوار وحَفِل بفلاسفةٍ (فلاسفة التنوير) ما زالت جامعاتنا ومثقفينا وأنظمتنا التعليمية تتشدّق بما جاؤوا على ذكره من خطوات للعبور إلى الدولة المدنية والديمقراطية الحقيقية (دولة الديمقراطية البيضاء)، ذلك العصر الذي شهد استعماراً لدولة جديدة سُمّيت لاحقاً بالولايات المتحدة الأمريكية.

العودة للكتاب ليس في ظل محاولةٍ تقيميّة أو مراجعةٍ له، وإنما إنصافاً لجهود الكاتب مما سنقتبسه من صفحاته المثيرة في محاولةٍ لفهم العقلية الديمقراطية التي نتخبّط بوُحولِها.

المبشرون القدامى و فلاسفة التنوير
"شعب الله المختار" ليست بالعبارة المستحدثة تاريخيّاً، إنما وردت في الكتاب المقدس يوم استخدم بنو إسرائيل هذا الرقي الديني لإبادة الكنعانيين ليستوطنوا أرضهم ويقيموا دولتهم إسرائيل. عاد هذا المصطلح للتداول بعد قرون من الزمن (القرن الخامس عشر-السادس عشر) من قبل أنبياء شركة فرجينيا الاستعمارية(1) التي كانت تستأجر رجال الدين لتحقيق طموحاتها الاستعمارية بحيث أصبحت معظم مواعظهم الدينية تجّسد سياسة الشركة عبر دمجها بأسفار العهد القديم(2).
أنشأت هذه الشركة أولى المستعمرات التي عرفت بمستعمرة جيمستاون، قوامها مئة وخمسة مستوطنين وتسعة وثلاثين بحّاراً(3). من بعدها بدأت التوسع لتسيطر على أراضي شعوب أخرى وتقضي على مضاجعهم إن عبر نشر الأوبئة أو خداعهم عبر معاهدات سلام (تشبه إلى حد كبير المعاهدات التي تروّج لشعبنا) ليعودوا إلى قتلهم حتى الإبادة.
هذا التاريخ الوحشي قد يكون غير مخفيّ بعناوينه الواسعة، لكن ما قد يفاجئنا اشتراك بعض الفلاسفة التنويريين في تبرير هذه المجازر بحق "البهائم السائبة" كما وصفهم أبرز مبشّري الشركة روبرت جونسون(4)، فقد برّر جون لوك، الثائر على الاستبدادية والمطالب بسلطة بيّنة محدودة برضا الشعب والحقوق الطبيعية، استبعاداً لأي احتمال للاستبدادية حتى لو كانت منقذة من الفوضى(5)، إبادة الهنود بدعوى أنّ أرض الميعاد هي مملكة الله وبالتالي إنّ أي وجود للوثنيين فيها هو خيانة عظمى وذلك في رسالته عن التسامح(6). جميلٌ أن تكتب عن التسامح فتعطي ذريعةً لأربابك لكي تنهش لحوم شعوب أخرى، كأن ينهكك أستاذ الجامعة عن أهمية الحفاظ على الثروة الحيوانية، وفي الوقت نفسه يقوم هو بإبادة للطيور المهاجرة عبر ممارسة هواية الصيد لديه قبل ارتياد الصف بساعات قليلة.
قد يكون تسامح لوك مؤلماً لمن ينظرون إلى مفكري القارة العجوز باندهاش وإعجاب، داعين سلطاتها إلى إعادة استعمارنا، ليعُمّ النظام والأمان. وقد يقولون أنه واحدٌ من بين الكثير، لذلك سنذهب لاختيار آخر من بين الكثير، توماس هوبس فيلسوف الواقعية الكلاسيكية الذي تجسّدت فلسفته في كتاب "الليفياتان" (7)، وهو اسم وحش بحري يشبه الدولة التي تحمي الضعفاء المساكين من اعتداء الأقوياء عليهم مثل الكنيسة والنقابات، أي من المنظمات الوسطية غير الدولة(8)، هوبس جسّد حالة الطبيعة لدى الانسان قبل الاجتماع بأنه ذئب لأخيه الإنسان، والقوة هي العنصر الأساسي للبقاء، مستخدماً بذلك قانون الطبيعة بذريعة البحث عن أسباب وجود الدولة. لكن هذا التوصيف جاء لتوصيف حالة الهنود المتوحّشين، الذين لا مبرر لوجودهم، قبل محاولة تمدينهم من قبل المستوطنين أو رجال شركة فرجينيا الاستعمارية، والتي للمصادفة كان هوبس أحد أعضاء مجلس إدارتها ومالك لأسهم فيها(9). فضلاً عن كتابته للإجابات التي كانت ترسل للمستوطنين. طبعاً لم تحمل هذه الإجابات التي خطّها فيلسوف الواقعية الكلاسيكية غير رؤاه الفلسفية عن قانون الطبيعة والحرية والدين والسلطة، إضافةً إلى مفاوضات السلام، والتي دائماً ما كانت تفهم من قبل المستوطنين بإحكام السيف في هؤلاء البهائم. وقد قُتل حوالي 200 رجل مسمّمين وقطعت رؤوس 50 من شعب كونوي أثناء مفاوضات السلام التي أجرتها شركة فرجينيا الاستعمارية، والتي للمصادفة انتهت بإبادة شعب كونوي وتدمير مدنه التي تقوم فوق إحداها مدينة واشنطن(10).
لوك وهوبس، وآخرون من مفكري أمريكا، كان جميعهم يعلمون بأن ما يروّجون له هو عبارة عن حفنة من الأكاذيب، فالحضارة الهندية كانت تملك حكوماتها وأنظمتها الزراعية والمعمارية، لكن كما لا يتورّع وعّاظ السلاطين وضع جميع التفسيرات الدينية خدمةً لملوكهم، لم ولن يتراجع المفكرون عن خدمة أولياء نعمتهم.

امبراطورية على جثث الثوّار
لم يسلم أحدٌ من فظائع الغرب، لا الأطفال ولا النساء ولا العجّز ولا الثائرون، كلّ لقي حتفه وتفنّنوا في إنهاء حياته. هذا الغرب الذي تؤلمنا آذاننا من ترداد محاسنه، يغيب عن المردّدين قروناً لم تجفّ دماءُ شعوب الأرض الملونّة من وحشيته وحقارته، من يستغرب إلقاء المعونات الغذائية والقنابل الذكية على بلد في ذات الوقت فليسأل اليابانيين، كل ذلك حدث ويحدث وسيظل يحدث بسبب بشرةٍ بيضاء تظن أن بقية الشعوب وجِدوا لخدمتها.
لم يفطن أحدٌ إلى الآن من شعوبنا أن هذه الامبراطوريات لا تهدف إلى إقامة دول العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية. شهداءٌ قتلوا ونُكّل بهم على مذابح الوطن والقاتل معروف ومعبودٌ من الجماهير، لم يكن توماس سانكارا ورفاقه من هواة السلطة عندما قاموا بثورتهم البوركينية (1983-1984)، نسبةً لبوركينا فاسو، ولكن ظلّ وطنهم، بعد نيل استقلاله عن فرنسا عام 1960، يعاني من مخلفات الاستعمار وتسلط رجال الإقطاع. فأتت ثورة سانكارا القصيرة لمحاربة الأمية ومكافحة التصحّر وتحرير المرأة وتحرير الفلاحين من سطوة الإقطاع، حيث أيّد سانكارا جميع القضايا العادلة من فلسطين إلى جنوب افريقيا، ليصرّح خلال قمة "منظمة الوحدة الافريقية" في أديس أبابا: علينا أن نتوقّف عن تسديد ديوننا إلى البنك الدولي. أصول هذه الديون تعود إلى أصول الاستعمار في بلادنا. أولئك الذين قدّموا لنا المال هم الذين استعمروا بلادنا مجدّداً، هذا هو الاستعمار الجديد (11). طبعاً لقي سانكارا حتفه وقطّع جسده، بعد هذا الخطاب عبر انقلاب على يد أحد عملاء الداخل الفرنسيين بليز كومباوري.
يعيدنا سانكارا بلباسه العسكري إلى المناضل الأممي غيفارا، ذاك الغني عن التعريف عبر القارة الامريكية الجنوبية الذي كافح من أجل تحرير الشعوب عبر مواجهة الامبريالية الجشعة، واستطاع ورفاقه تحرير كوبا من حكم الطاغية باتيستا، وظلّ ملاحقاً حتى قُتل وهو في الأسر على يد رجال دولة الأمن القومي وحقوق الإنسان، ليس لسبب غير أن نتاج شركة فرجينيا لا يقبل الأحرار ويبغض الشعوب.
وإذا ما انتقلنا جنوباً من كوبا إلى تشيلي، وبالعودة إلى عام 1973 يوم قام الجيش بانقلاب عسكري بالتعاون مع الاستخبارات الأمريكية (بحسب وثائق من الكونجرس الأمريكي)، على الرئيس المنتخب ديمقراطياً ذي الخلفية الماركسية سلفادور الليندي، فقصف القصر الرئاسي وأعلن صباح ذاك اليوم الليندي أنه سيدفع دمه في سبيل الديمقراطية، فأمسك برشاشه وقاتل إلى أن أغتيل من أجل مصلحة وطنه، هذا المشهد (نتمنى عدم حدوثه في فنزويلا بالرغم من الطرق الأخرى التي تقوم الإمبراطورية باستعمالها لتدفع إلى إلخيار المسلح) لا يختلف منذ بداية تأسيس النطفة السرطانية مستعمرة جيمستاون (بحسب تعبير العكش)، إلى أن أصبحت امبراطورية سرطانية تفتك بشعوب الأرض الملوّنة وأحرارها على كامل الكرة الأرضية (نيكاراغوا والجزائر وليبيا وسوريا... إلخ) لتتأكد شهادة داروين القائلة "أينما حلّ الأوروبيون، حل الموت بالسكان الأصليين".
هذه هي مصائر من يحاول نيل حريته وإقامة دولته. وهذا هو الغرب المتعطّش دائماً للدماء. لم يكن من جئنا على ذكرهم وحدهم الأحرار، سبقهم كثيرون ولحق بهم كثيرون وما زال التاريخ يعاود نفسه.

ويكيليكس وسجون الديمقراطية
أوجدت كل دول الغرب مبرّرات لسَحْلِنا وقتل رموزنا باسم الديمقراطية ولم تتوانَ طيلة قرون من الزمن عن بطشها. هذه الدول التي تتفنّن، هي وجمعياتها غير الحكومية المنتشرة، في وعظنا عن دولة العدالة والقانون بينما ترهبنا، نحن الأحرار، عبر أساليب جديدة لمنعنا من مواجهتها، محاولةً إسكات أصواتنا.
أنتجت هذه الديمقراطيات الأساليب الأكثر ملاءمةً لحرف أصواتنا وتشتيت بوصلتنا. تخيّل أن هناك جمعيةً غير حكومية (NGO) لركوب الدراجات الهوائية، وهي التي لم تنقطع يوماً من إيجاد تنويريّيها ومثقّفيها وعملائها، لكن في أيامنا هذه ليس أسوأ من الإمبريالية نفسها إلاّ ليبراليّيها و"يساريّيها".
يسكت جميع هؤلاء الفارغون اليوم عن قضية المناضل جورج عبدالله العادلة والمحقة ورجال أعمال لبنانيين خطفوا إلى سجون أمريكا السرية، كما سكتوا عن اعتقال تشيلسي مانينغ القابعة في السجون الأمريكية بعد أن القي القبض عليها للمرة الثانية. نذكر أيضاً أن "منظمة العفو الدولية" لا تعتبر مانينغ سجينة رأي خدمةً لأولياء نعمتها.
مانينغ وللمفارقة عملت في وكالة الاستخبارات الأمريكية كمواطنة أمريكية ولم تعمل لديها، قامت في عام 2010 بتسريب مئات الآلاف من الوثائق السرية التي فضحت عملاء وأفعال الإمبراطورية الاستعمارية من تآمر وقتل مدنيين وتدمير البلاد حول العالم وتقارير عن فظائع مجرمي اليانكيز في غوانتانامو وسجون سرية أخرى، بالتعاون مع وكالة ويكيليكس ومؤسسها جوليان أسانج. (نشرت الوكالة مؤخراً وثيقة أمريكية تطلب الحكومة من خلالها إنشاء سجن سرّي في لبنان عبر مكتب جمعية في فرانكفورد - طبعاً هو مكتب لوكالة الاستخبارات الامريكية)(12).
جنّ جنون الإمبراطورية وأصبحت وزارة الخارجية تغلي، كون جميع نشاطاتها السرية حول العالم أصبحت مكشوفة، لم تهنأ هذه الكتلة السرطانية حتى استطاعت بمساعدة الدول الأكثر ديمقراطية في العالم، السويد التي لفّقت تهمة التحرش لمؤسّس الوكالة وبريطانيا التي قدمته للمحاكم بناءً على طلب الأمريكي بتهمة إفشاء أسرار الدولة، بعد أن استطاع من الحصول على اللجوء السياسي، لدى سفارة الإكوادور في لندن عام 2012. وفي حين أن بلده الأساسي أستراليا لم يبدِ أي اهتمام لمواطنه، ظلّ أسانج قابعاً لديها لحين استطاعت الولايات المتحدة من تنصيب خادمها (مورينو) اليميني الفاسد خلفاً، الذي ترشّح على لائحة حزب كوريّا خادعاً الجميع بادعائاته، للرئيس اليساري السابق رافاييل كوريّا الذي رفض التمديد لنفسه لولاية ثالثة إيماناً منه بتداول السلطة.
اختُطِف أسانج يوم الخميس في 11 من الشهر الحالي، في مشهد (كان مدبّراً من الأمريكان) أبدَعَ في وصفه الكاتب في جريدة الاخبار اللبنانية سعيد محمد "لكن الإمبراطورية، بإذلال أسانج وربما قتله لاحقاً، تريد إبلاغ كل «أسانج محتمل» بأن يدها طويلة، وأن نظام الغاب الأميركي لا يعترف بخرافات مثل القانون الدّولي أو توازن السلطات أو سيادة الدول أو حرية الصحافة أو القيم الديموقراطية".
وقف الأحرار في هذا العالم مشدوهين أمام خطف أسانج الذي لم يعد بالمناسبة رئيس تحرير الموقع منذ سنة تقريباً، في حين كان تنويريّو أمريكا يصدحون في إعلامهم وإعلام عملائهم عن إنجاز القبض على الحرّ أسانج، وكأنه تم إلقاء القبض على سفّاح يجول الشوارع مرعباً سكانها. هؤلاء ما زالوا موجودين وكلّ الشعارات ما هي إلّا الحلة الجديدة لرسائل شركة فرجينيا الاستعمارية.

خاتمة
أسانج ليس الأوّل ولن يكون الأخير الذي سيلقى مصير الإمبراطورية المجرمة، هذه سياسة تراكمت عبر قرون من الزمن ولا يمكن تصوّر ما سيأتي لاحقاً، فقد تبيح مع الوقت أكل لحوم الأحرار في العالم بدل دفنهم إفادةً لخَدمِها المتملّقين، العدو الصهيوني أصبح يخفي أجساد الأبطال وينبش قبورهم حتى أنه بات يكسر الشواهد على قبورهم (لم يسلم غسان كنفاني من هذه العقلية الوضيعة).
فلنعلم جميعنا أن مصيرنا الزوال أو المقاومة، ولم يعد هناك أي تبرير لمقاومتنا واستعدادنا، هذه الإمبراطورية ماضيةٌ حتى إبادتنا. ومن يتوقع من الليبراليين وكل من يتشدق بالغرب أنه سيقف لوهلة كي يدافع عنا واهمٌ، فمصيره اللحاق بنا. هذا ما يظهره التاريخ، وهذا ما ستظهره الأيام القادمة.
عاش أحرار العالم...

1) منير العكش، دولة فلسطينية للهنود الحمر، دار رياض الريس للكتب والنشر، ص 40
2) المصدر نفسه
3) منير العكش، مصدر سبق ذكره، ص 39
4) منير العكش، مصدر سبق ذكره، ص 41
5) الدكتور موسى إبراهيم، الفكر السياسي الحديث والمعاصر، دار المنهل اللبناني، ص115
6) منير العكش، مصدر سبق ذكره، ص 43
7) الدكتور موسى إبراهيم، مصدرسبق ذكره، ص 79
8) الدكتور موسى إبراهيم، مصدرسبق ذكره، ص 79
9) منير العكش، مصدر سبق ذكره، ص 72
10) منير العكش، مصدر سبق ذكره، ص 83
11) محمد نزال، سانكارا «النزيه»... المقتول رفضاً لِدَين الاستعمار، جريدة الأخبار اللبنانية
12) https://shoppinglist.wikileaks.org/docs/de_Prison-Lebanon

  • العدد رقم: 356
`


فيدل العبادي