وفعلا، بدأت اولى الحروب الامريكية من افغانستان عام 2001، وانتقلت الى العراق عام 2003 بحثا عن أسلحة دمار شامل لم يتم ايجاد اي أثر لها، ونشرا لديمقراطية لم تجلب للشعب العراقي الا الحروب والويلات والنهب. كما دعمت الولايات المتحدة الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 ضمن ما اسمته وزيرة الخارجية الامريكية حينها بأنه "مخاض عسير لولادة شرق أوسط جديد". وبعد ان بدأت أحداث ما عرف بالربيع العربي عام 2011، شنت الولايات المتحدة حربا على ليبيا بحجة نشر الديمقراطية في ذلك البلد، كما شاركت ضمن حلف دولي في الحرب على سوريا والعراق، وشددت حصارها الخانق على ايران وفنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا بهدف اسقاط هذه الدول. بإختصار، فإن عالم ما بعد 11 أيلول هو عالم الحروب الامريكية المتنقلة.
أبطال وإرهابيون
لم تحدد الولايات المتحدة تعريف واضح لل "الارهاب"، لذا فإن هذا المفهوم الفضفاض سمح للولايات المتحدة بوصف أي بلد لا يخضع لها على انه ارهابي (وهي تستخدم الاسلوب نفسه اليوم مع الشركات التكنولوجية)، وبالنسبة للمنطق "الامبراطوري" الذي تعتمده، فهذا يسمح لها بصفتها "قائد للعالم" أن تأدب هذا البلد، وتشن حرب مباشرة او بالوكالة او فرض عقوبات قاسية جدا، وتكون نتائج كل هذه الاجراءات دمارا لشعوب وبلاد كانت يوما ما مزدهرة وآمنة.
من جهة اخرى، فإن الولايات المتحدة استخدمت هذا المصطلح بإنتقائية تتناسب ومصالحها، فبطل الامس هو إرهابي اليوم، وإرهابي الامس بطل اليوم. مثلا، يروي الكاتب الباكستاني إقبال احمد كيف استقبل الرئيس الامريكي دونالد ريغن سنة 1985 مجموعة من المقاتلين الافغان، ووصفهم بأنهم "المعادلون الاخلاقيون لآبائنا المؤسسين" لانهم كانوا يقاتلون عدو امريكا، اي الاتحاد السوفييتي. الا ان هؤلاء الافغان الابطال الذين يحظون بقداسة الاباء المؤسسين للولايات المتحدة، لم يكونوا سوى "المجاهدين الافغان" الذين سيتحولون فيما بعد بنظر الولايات المتحدة نفسها الى "إرهابيين".
ارقام حول تكاليف الحرب
أصدر باحثون من جامعة براون تقريرا بعنوان "Cost of War"، حيث اظهر ان تكاليف حرب أفغانستان وحدها كلفت الخزانة الامريكية ما لا يقل عن 2.3 ترليون دولار حتى الان. ويشير التقرير الى ان هذه التكاليف هي أقل من الواقع. كما قدر الباحثون بان الولايات المتحدة أنفقت 5.8 ترليون دولار على مجمل الحروب والصراعات التي اعقبت أحداث 11 ايلول 2001 والتي شملت أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وغيرها من الاماكن.
هذا التقرير الذي ينقسم الى أربع أقسام اساسية، يظهر أيضا التكاليف البشرية الهائلة للحروب الامريكية التي اعقبت 9/11 والتي وصل اجمالي ضحاياها الى ما يقارب ال 292000 قتيل. حيث يقدر أن 241 ألف شخص لقوا مصرعهم في حرب أفغانستان، من بينهم 2442 من أفراد الجيش الأميركي، وانتحار أضعاف هذا الرقم. إضافة إلى مقتل ما يقرب من 4 آلاف متعاقد أميركي، و 1150 شخصا بين عسكريين ومتعاقدين من دول التحالف الدولي، إضافة لمقتل نحو 141 ألف أفغاني، من بينهم 43 ألفا من عناصر طالبان، وما يقرب من 60 ألفا من عناصر الشرطة والجيش الأفغاني، إضافة إلى 38 ألف مدني أفغاني، اما الاصابات فهي تقدر بمئات الآلاف. اما في باقي الدول، فقد أظهرت التقديرات ان عدد القتلى في باكستان وصل الى 67 الف، وفي العراق 306 آلاف، أما في سوريا فيقدر العدد ب 266 ألف، واليمن 112 الف. ولا تشمل هذه الأرقام الوفيات غير المباشرة الناجمة عن الجوع والمرض ونقص المياه..
القسم الثالث من التقرير يظهر ان عدد النازحين نتيجة الحروب التي أعقبت أحداث 11 أيلول وصل الى 38 مليون انسان في أفغانستان، باكستان، العراق، سوريا، ليبيا، اليمن، الصومال والفلبين. اما القسم الرابع فيظهر ان الولايات المتحدة نفذت ما سمته "عمليات مكافحة الارهاب" في 84 دولة على الاقل.
مع كل هذه الخسائر، لماذا الحرب إذا؟
بعد كل هذه السنوات من "الحرب على الارهاب"، يمكن الاستنتاج بأن هذه الحروب فشلت في تحقيق هذا الهدف، فعدد الارهابيين الناشطين اليوم حول العالم يتخطى مثيله سنة 2001 بثلاثة اضعاف على اقل تقدير، كما ان الهدف المباشر للحرب على افغانستان لم يتم تحقيقه، حيث تمكنت طالبان من السيطرة على كل افغانستان خلال وقت قياسي وقبل اكتمال الانسحاب الامريكي. اما تنظيم القاعدة فهو اليوم ينشط بشكل فاعل في عدد من البلدان تحت مسميات مختلفة، وخاصة في سوريا (تنظيم جبهة النصر) حيث حظي مقاتلوه بدعم امريكي غير مباشر.
ان الخسائر الناتجة عن الحروب التي تخوضها "الامبراطوريات" او الامبرياليات عبر التاريخ لا يمكن قياسها من خلال احصاء مجموعة من النتائج المباشرة لهذه الحروب. فالنتائج اللاحقة قد تكون اكثر تدميرا بكثير من الحرب نفسها. على سبيل المثال، كيف يمكن ان نحصي الخسائر الناتجة عن نزوح ملايين من البشر من بلادهم؟ هؤلاء تغيرت حياتهم بشكل كامل، ومعظمهم يعيش في مخيمات للجوء لسنوات، أي انه لن يكون جزء من بناء بلده او امته، وبالتالي فإن نتائج الحرب بالنسبة له ستنعكس على كل مستقبله ومستقبل بلده الذي حرم من طاقاته.
عندما تقوم دولة امبريالية مثل الولايات المتحدة بشن حربا ما، فهي بعملية التدمير هذه تقوم بعملية انتاج للقيمة التي تتراكم لصالح النخب الحاكمة فيها، لذا فإن هذا الدمار يكون ممنهج وله اهداف واضحة، وغالبا ما يكون هذا الهدف استدامة السيطرة والنهب. مثلا، من خلال تدمير اليابان في الحرب العالمية الثانية، تمكنت الولايات المتحدة من اخضاع هذا البلد وربطه بمخطتاتها طويلة الامد، لذا، فإن عملية التدمير انتجت نظاما سياسيا واقتصاديا في هذا البلد يخدم مصالح الولايات المتحدة. مثال آخر هو الصين التي شنت عليها القوى الامبريالية ما يعرف ب"حرب الافيون"، لا لشيء، ولكن فقط لان هذا البلد كان عصي على استغلال تلك القوى. هذه الحرب ادت الى دخول الصين في عصر كامل من الاذلال والاستغلال والحروب الاهلية. هذه العملية ممكن رؤيتها بشكل اوضح في افريقيا وكذلك في الشرق الاوسط، حيث تسعى الحروب المتنقلة الى ابقاء هذه الدول في دائرة الصراع والتخبط، مما يسهل الهيمنة عليها. وبهذا المعنى تصبح التكلفة المباشرة للحرب بالنسبة للولايات المتحدة تفصيلا لا تلتفت له النخب الحاكمة.
لذا، بالنسبة للشعوب، إن احصاء الخسائر النهائية لهذه الحروب هو امر غير ممكن قياسه من خلال الارقام فقط، فهو يقاس بالهيمنة والنهب والاستغلال وقمع التطور الطبيعي للدول. وايضا امام هذه المعادلة، تصبح الارباح المباشرة التي تحققها شركات الاسلحة نتيجة للحروب تفصيل بسيط امام الارباح الاستراتيجية التي تحققها "الامبراطورية" من خلال تدمير الدول وقمع تطورها ومن ثم اخضاعها واستغلالها.
لقد تزامن بداية ونهاية الحرب الامريكية على أفغانستان مع مرحلة شيخوخة الامبريالية الامريكية. وفي مرحلة الشيخوخة هذه تصبح النكسات اكبر، لذا ما كان يمكن تحقيقه سابقا من خلال هكذا حروب، أصبح أصعب بكثير اليوم. كما ان تجارب التاريخ تعلمنا ان مرحلة موت الامبراطوريات تترافق مع حروب يدفع ثمنها شعوب وامم دون ان يكون لهم أي ذنب، فذنبهم الوحيد ان نخب حاكمة حاولت ان تطيل عمر امبراطوريتها من خلال مص دماء شعوب اخرى، وهذا ما يحصل في عالمنا اليوم، وهذا ما حصل ويحصل في افغانستان والعراق وسوريا وغيرها من الدول. ولكن يجب على احدهم ان يقول ان الامبراطورية تحتضر، ولن تنفع المسكنات.
محاضرة القيت في كاليفورنيا عام 2007 (Oct 3, 2007, Commonwealth Club of California, San Francisco, CA
من محاضرة لاقبال أحمد (توفي في إسلام آباد في ١١ أيار ١٩٩٩) ألقاها بالانجليزية في جامعة كولورادو في بولدر في 12 تشرين الأول عام ١٩٨٨. ترجمتها ونشرتها مجلة الاداب في عددها ٩/١٠ سنة ٢٠٠١
*باحث في مركز البحوث الصيني العربي لمبادرة الحزام والطريق، جامعة زيجيانغ للعلوم الصناعية والتجارية، الصين.