فشرعة حقوق الانسان التي تؤكّد على ضمان صحة الإنسان وشيخوخته وتعليمه وسكنه وعمله، ما زالت بعيدة عن التطبيق. والسائد في كلّ شيء هو منطق الربح الخاص وعلى حساب الإنسان. فسلطة الدولة التي تجبي أموالها من الضرائب والرسوم المفروضة على الشعب، تقوم بدور المشرّع والحارس لمصالح القلة الضئيلة الأكثر ثراء، الاوليغارشية، باستغلال الناس حتى في الصحة والاستشفاء والتعليم والسكن، إضافة إلى تلاعب كبار التجار بالأسعار والغش، ومصادرة البنوك ودائع الناس. والوظيفة الأخرى للدولة هي قمع التحركات الشعبية الغاضبة من هذه الحالة مع ميليشيات زعامات الطوائف. ومع وصول الانهيار وخطر غرق لبنان بالجملة كما باخرة التايتينيك عام 1912، تواصل الأطراف السلطوية الذهنية والمعايير الطائفية نفسها، سواء حيال تشكيل الحكومة، أو أيّ قضية أخرى. فيختلفون الآن على صلاحيات تشكيل الحكومة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف سعد الحريري. ويتقاذفون التهم والضغوط بشأن التحقيق القضائي المتعلق بإهمال المسؤولين في كارثة انفجار المرفأ، وكذلك بموضوع الفساد، فيؤدّي ذلك إلى عرقلة تشكيل حكومة التحاصص. ولعلّ انتظار استيضاح العلاقة بين الرئيس الأميركي الجديد وبين إيران من الأسباب أيضاً. وفي ظلّ احتدام الأزمات ومحاولة إعطاء التناقضات طابعاً طائفياً، يزداد خطر المخطط الاميركي الصهيوني الرامي إلى افتعال اضطرابات داخلية، وجرّ لبنان إلى صف المطبّعين مع العدو الصهيوني.
وفي غمرة تناقضات وتجاذبات السلطويين وإضعاف دور الدولة، يجري استنبات أفكار وطروحات تدفع إلى الفدرلة التي لا يمكن أن تكون حلّاً، وإلى أطروحة حياد لبنان، علماً أن طبيعة النظام الطائفي التحاصصي، هي التي تدفع زعيم هذه الطائفة أو تلك إلى خارج يستقوي به. وبدون معالجة الأسباب المرتبطة بالنظام نفسه، لا جدوى من معالجة النتائج، فيبقى لبنان ساحة لفعل التداخل بين العوامل الداخلية والخارجية.
لقد كان هذا العام الذي شارف على نهايته، مثقلاً بكوارث وانهيارات مؤلمة أصابت معظم اللبنانيين، وجعلت حوالي 60% تحت خط الفقر. ودفعت كثيرين من الشباب والعائلات إلى الهجرة والمغامرة بحياتهم باستخدام مراكب الموت، ممّا تسبّب بغرق الكثير منهم أطفالاً ويافعين. لكن برزت في هذا العام أيضاً ظاهرة مضيئة لم يسبق أن شهد لبنان مثلها، هي انتفاضة 17 تشرين التي شارك فيها مئات ألوف اللبنانيين عابرين للطوائف والمناطق، مطالبين بإسقاط النظام الطائفي ومنظومته السلطوية الفاسدة، وإقامة دولة الديمقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية. فشكّلت تعبيراً عن إرادة شعبية عارمة، وخلقت مناخاً من الوعي والجرأة شمل أوساطاً واسعة جداً خصوصاً بين شباب لبنان وشاباته، وإرتباكاً في القاعدة الاجتماعية للزعامات الطائفية نفسها. وقد بدأت ثماره تبرز في نجاحات التيار العلمانيّ الديمقراطيّ في الجامعات الأساسية في لبنان، فضلاً عن نجاحات في نقابة المحامين ووسط المهندسين ورابطة أساتذة الجامعة اللبنانية، وغيرهم على الطريق. كما أخذت تظهر عملية تشكّل تكتلات للأوساط المشاركة في الانتفاضة، تمهيداً للتلاقي في ائتلاف واسع، على قاعدة برنامج مشترك.
وإذا ما أثّر القمع السلطوي والميليشيوي الطائفي ومعه جائحة كورونا سلباً على شكل التحرك الشعبي، إلّا أن شعلة الانتفاضة التي شكّلت الردّ الطبيعي على الفساد والانهيار، في السلطة السياسية والمصرفية، ورفضاً للإفقار والتجويع ستبقى متوهّجةً وعاملَ ثقةٍ وأمل، في جدوى النضال للتغيير وبناء المستقبل.