تغييب معالم الدولة بتسلّط الزعامات والمرجعيات

مع ازدياد تسلّط الزعامات والمرجعيات على الدولة، يزداد تضاؤل معالم هذه الدولة ودور مؤسساتها الشرعية. وهذا التسلط يصبح نمطاً متبعاً في ظل سلطة النظام القائم، ويترك انعكاساته السلبية على مشكلات شعبنا ووضع بلدنا. وحتى المجلس النيابي، وهو المؤسسة الأم للتشريع والمحاسبة، لا يقوم بدور فاعل في معالجة المشكلات التي يتخبط بها شعبنا من جراء الكوارث والانهيار وأثره الشديد في ضيق مجالات العيش.

وإذا ما قام هذا المجلس بمنح الثقة للحكومة الحالية، فليس ذلك أكثر من دور شكلي كان يقوم به إزاء الحكومات المتعاقبة، التي أوصلت الشعب والبلاد الى ما نحن فيه من فقر وإذلال وانحدار مريع. والمجلس النيابي الذي يفتقد أصلاً لثقة الشعب، ليست ثقته للحكومة كافية وإن كانت قانونية، فالشرعية هي ثقة الشعب. وهي لا تُستعاد بوعود برّاقة وكلام معسول سئم الناس سماعه. فهذه الحكومة التي وُلدت من رحم النظام الطائفي وطبقته السلطوية، وبنفس المعايير التحاصصية طائفياً وسياسياً، ستستمر كما غيرها. فرغم شتم  الفساد ومكافحته لم نجد فاسداً واحداً وراء القضبان. وفوق ذلك تطلب الحكومة من اللبنانيين بلسان رئيسها شد الحزام، وتدفيع الناس ثمن انهيار هم ضحاياه وليسوا صناّعه. فالمتحكمين بالسلطة يسخِّرون كل قوى الدولة ومؤسساتها، لحماية فسادهم وطبقتهم السلطوية ونظامهم العقيم، فيضعون سياجاً من الباطون المسلّح والحديد حول مبنى المجلس النيابي والقصر الحكومي، وتدابير مشددة حول مساكن الوزراء، وصولا إلى القصر الجمهوري، خوفاً من الشعب الذي هو المالك الحقيقي لجميع مقرّات الدولة. بينما استخدموا أسلوب القمع العنيف ضد انتفاضة الشعب التي شملت البلاد، وارتكبوا جرائم موصوفة وفقأوا عيون شباب وصبايا بطلقات محرمة من الخردق. علماً أن المنتفضين ليسوا هم من سرق مال الشعب، واحتكر المحروقات والدواء، وحليب الأطفال.. الخ. بل هم يطالبون بحلول للمشكلات الحادة التي يشكون منها، وبينها محاسبة فساد السلطويين. ويجهد القابضون على مفاصل السلطة، سواء في المجلس النيابي الذي تنام في أدراجه مشاريع قوانين منها مثلاً "كابيتال كونترول" أم في مواقع وزارية وغيرها، إلى عرقلة ومنع رفع الحصانة عن فاسدين أو مهملين مطلوب حضورهم الى القضاء. "ويكتمل النقل بالزعرور" بمشهد إقدام المرجعيات الروحية للطوائف على إقحام نفسها بإعلانها أن المُستدعى من طائفتها الى القضاء هو خط أحمر. وان المساس به يمسّ الطائفة. 

إن هذا الوضع المستهجن الذي لا مثيل له في العالم، يعطي صورة للخارج والداخل، أن لبنان غابة والشريعة فيها للأقوى. "لشاطر بشطارتو" إحتيالاً أو قرصنة كما تفعل المصارف بأموال المودعين. وكأننا لسنا في دولة لها دستور وقوانين.. لقد كان لبنان مشروع دولة، لكن النظام وطبقته السلطوية المتمسكة به، رغم التناقضات والانقسامات  العامودية التي يفرزها، حالت دون إقامة دولة كاملة المعالم، فوجد السلطويون فيها ما يناسب استغلالهم وجشعهم ومصالحهم الخاصة. وعندما تنامى وعي الناس وتحركاتهم أخذت تتحد في مواجهتهم كل قوى ومواقع السلطة، التشريعية والتنفيذية والروحية، وتقوم بأدوار تكاملية، ليس لإصلاح الوضع وإنهاء المعاناة، وإنما لضرب الحركة الشعبية ومطالبها باستخدام وسائل مختلفة منها القمع المفرط السلطوي والميلشيوي. وتتواصل الآن حملات الضغط والتدخل ضد استقلالية القضاء، لتعطيل الوصول إلى كشف الحقيقة في جريمة العصر بتفجير مرفأ بيروت، واستخفافاً بدم الضحايا وحقوق جميع المتضررين، ومنعا لمحاسبة المسؤولين والمتسببين.

إن الإتيان بحكومة أقل من عادية في ظروف استثنائية، يظهر عدم جدية المعالجة الضرورية للأوضاع، ليس حصراً من الحكومة، بل من الطبقة السلطوية.وإذا ما حصروا مهمتها بجرعة أوكسيجين من الخارج، وبإجراء الانتخابات النيابية في الأشهر المقبلة كما يقولون، فهل بوسع هذه الحكومة اعتماد قانون انتخاب جديد نسبي ولا طائفي وفي الدائرة الواحدة أو دوائر كبيرة لتصحيح التمثيل الشعبي ولجعل النائب والمجلس يمثل الأمة لا هذه الطائفة أو تلك؟

لم تعد المسكنات مجدية، ولا الترقيع حلاً. فقد بات التغيير ضرورة وطنية انقاذية. ويستدعي توحيد طاقات جميع القوى والهيئات الديمقراطية الداعية الى التغيير، لتخلق ميزان قوى جديد قادر على النجاح في مواجهة المنظومة السلطوية، وتحقيق الإرادة الشعبية في بناء لبنان جديد بدولة ديمقراطية علمانية قادرة على حماية الوطن ومصالح الشعب الاجتماعية.