في اليوم التالي، ألتقي بمجموعة من أربع صديقات جزائريات، جميعهن يعشن خارج الجزائر بهدف متابعة دراستهم. أمازحهن بالقول "يحيا أبو تفليقة". يبتسمن جميعاً، وهن اللواتي لم يتخطَّ عمرهن السياسي بعد الأربع وعشرين ساعة. ولكن وكأن ما حصل خلال السنوات الثماني الماضية في العالم العربي وتحديداً في سوريا والعراق واليمن وخاصة ليبيا المجاورة لبلدهن، دفع بنضجهم السياسي إلى الامام بسرعة، حتى أصبحت كل واحدة منهن تستطيع أن تضع موقفاً سياسيّاً وطنيّاً متكاملاً.
تقول ليلى، وهي من غرب الجزائر "لا يمكننا العودة الى الوراء، ما حصل لنا في العشرية السوداء كان أبشع مما تشاهدينه اليوم في ليبيا وسوريا"، أبتسم محاولة القول "لا تعلمين شيئاً عن ذلك الجحيم"، ولكنها لا تأبه لي، وتكمل شرح موقفها: "هناك أناس محيطون بأبو تفليقة، يستغلون احترام الناس له، وخاصة بسبب دوره في إنهاء القتل الذي ساد في التسعينات. إن ما يجري في بلدنا لم يعد يطاق، الفساد منتشر بشكل كبير، لا يمكننا أن نرضى بأن يفرضوا علينا رجلاً مريضاً لم نرَ وجهه منذ سنوات". تقاطعها صديقتها ياسمين، وهي من الجزائر العاصمة "مريض؟ إنه ميت منذ سنوات، والفاسدون يديرون البلد". تتدخل لمياء، وهي فتاة خجولة من شمال شرق الجزائر "أنا خائفة من المستقبل، لا يوجد بديل، والتظاهرة الأولى بالأمس لم يعلم أحد من دعا إليها، هكذا بدأت في ليبيا".
أنا التي تستمع إلى حديثهن، أتذكر أيامنا الأولى في سوريا، يومها لم نكن خائفات، كان وهج تونس ومصر، وسهولة إسقاط الحكام في هذين البلدين يعمي نظرنا. أعيد شريط الأحداث فلا أجد فيه نقاشاً من هذا النوع في تجربتنا السورية، كنا مندفعين بشكل كبير، ولم يكن لنا أي تجربة سياسية، خاصة نحن الشباب. ولكن ما لفتني أكثر، هو نقاشهن الهادئ، وهن المتفقات تقريباً على معظم العناوين، على الرغم من أنهن من مناطق مختلفة. أتدخل طارحة سؤال "ماذا تتوقّعن أن يجري في الايام القادمة؟".
تجيبني ليلى، وبلغة الواثقة تقول "بالأمس مرّت المظاهرات الأولى بشكل سلمي وفي كل الجزائر، هذه المظاهرات ستكبر، وأعتقد أنها ستبقى سلميّة، فنحن دفعنا مليون شهيد لإخراج المحتل الفرنسي، وفوق المليون عشرات الآلاف لضرب الإرهاب، لذا فإن كل الجزائريين يعلمون أنه من غير المسموح للخارج التدخل في شؤوننا، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة، وأيضاً لا مكان لمن قتل شعبنا باسم الإسلام. أما الفساد، فهو التحدي الجديد، نظامنا فاسد ويجب أن نوقف هذا المسار الانحداري الناتج عن النهب المنظم. لقد بدأت المظاهرات، وستكبر، وستجبر النظام على التنازل، وسنحظى بجزائر مستقلة ترفض أي تدخل خارجي، تقدمية ترفض التكفير والتطرف، وديمقراطية يكون فيها الشعب مصدر السلطات، وهو من يحاسب ويغيّر". أنظر إلى وجوه الأخريات، وأجد علامات الرضى والموافقة على هذا المسار.
اليوم، وخلال كتابة هذه السطور، يكون قد مرّ شهر على هذا اللقاء، وشهر ويوم واحد على أول تظاهرة في الجزائر، ويبدو أن ليلى كانت تتكلم بلسان كل الجزائريين، لا بل كانت تتكلم بلسان كل الذين عايشوا أحداث سوريا وليبيا وغيرها من البلدان التي عانت الحروب والتدمير خلال السنوات الماضية، وكل هؤلاء الذين خافوا ان تتكرر هذه النماذج في الجزائر، إلا أنه يبدو أن الجزائر ستعلمنا درساً جديداً في النضال في سبيل الحق أو هذا ما نتمناه لشعبها الذي يستحق الحياة.
جزائريات وسورية
تقول لي صديقتي، بالإذن يجب أن أنام. أجيبها وأنا مندهشة، الآن؟ الوقت باكر جداً. تردّ والتعب يأكل صوتها، لم أنم طوال ليلة أمس، كنت أتابع التظاهرات في الجزائر. أنظر إليها والضحكة تسبقني، أنت؟ وتظاهرات؟ كيف ذلك؟ منذ متى تتابعين القضايا السياسية؟ يأتي جوابها خفيفاً ببعد المسافة بيننا والتي تكبر شيئاً فشيئاً، أنا خائفة من تفلّت الأمور، لقد ذقنا الويلات فيما مضى، لا نريد أن يحدث ذلك مجدداً.
- العدد رقم: 354
النداء 2024. حقوق المنادى فقط محفوظة.