أميركا تُجيبُ بأنّ "هيبة" بريطانيا وفرنسا قد زالت من الشرق الأوسط بعد مؤامراتهما مع إسرائيل على سيادةِ مصر، وبعد غدرِهما الفاضحِ مع إسرائيل لشعب مصر. وإذن ، فقد حَدَثَ في الشرق الأوسط فراغ.. وإذن، فلا بدّ لأميركا نفسِها أن تسُدَّ هذا الفراغ.. وذلك بأن تُقيمَ "هيبتَها" في مكان "الهيبةِ" البريطانيةِ الفرنسيةِ المفقودة في بلادِنا الآن.. وبلادُنا لا إسمَ لها في "قاموس" الدولةِ الأميركيةِ الكبيرة غير اسم "الشرق الأوسط".
وعلينا نحن الآن أن نفهمَ لغةَ أميركا واقعياً.. علينا أن نفهمَ ماذا تعني بهذه "الهيبةِ" التي تتحدثُ عنها هذه الأيام كثيراً، وتندُبُ فقدانَها من الشرق الأوسط بعد العدوان المثلّث على قناة السويس وسيناء، وبعد الخيبةِ القاصمة التي انتهى بها هذا العدوان؟..
طبعاً ليس معنى الهيبةِ هنا هو المعنى نفسَه الذي نفهمُه نحن العربُ من ظاهرالكلمة، فإنّ أجدادَنا وضعوا لنا هذه الكلمةَ مقرونةً بمعنىً كبير من معاني المروءة والشرف وجلال الرجولة ، وأميركا لا تقصد -قطعاً- أن تقولَ إنّ بلاد "الشرق الأوسط" فقدت مروءةَ بريطانيا وفرنسا وشرفَهما وجلالَ رجولتِهما ، فهي -أي أميركا- أعلمُ من يعلم أنّ بلدانَ هذا "الشرق الأوسط" ما عرفتْ يوماً في "هيبةِ" هاتيْن الدولتيْن شيئاً من معاني المروءة، أو الشرف، أو جلالِ الرجولة...
فأيُّ شيءٍ تعني أميركا، إذن، بما تتحدث عنه من فراغ "الهيبة" البريطانية الفرنسية في بلادنا؟
تُرى، هل الأمر يحتاج إلى سؤال؟!
أميركا تعني هيبةَ الاستعمار... هذا هو المعنى الذي في قلبها تماماً. وهيبةُ الاستعمار معناها مصالحُه وقواعدُه العسكرية والا قتصادية والجاسوسية... معناها شركاتُه واحتكاراتُه ودعاتُه وعبودياته!
ويقيناً أنّ أميركا لا تقصد أن هذه كلَّها قد زالتْ تماماً من "الشرق الأوسط". فإنها هي أعلم من يعلم أيضاً أن الاستعمار ما تزال له قواعدُه وامتيازاتُه واحتكاراتُه في كثيرٍ من بلدان هذه المنطقة ، كما لا يزال لبريطانيا نفسِها "حلفُها " العتيد في جزءٍ من هذه المنطقة.
نعم، أميركا لا تقصد، يقيناً، ذلك، ولكنها تعلمُ في الوقت نفسه أنّ انتصارَ مصر العظيم على العدوان الغادر المدجَّج المثلَّث، قد جاء ضربةً على أمِّ رأس الاستعمار، فترنّحَ للضربةِ وأصابَه الشللُ في كثيرٍ من نواحيه... وأميركا تعلم، مع ذلك، أن انتصار مصر هذا جاء انتصاراً لقوى التحرر الوطني كلّها، لا في بلاد العرب وحدها، بل في بلدان آسيا وأفريقيا جميعاً، وجاء انتصاراً للقومية العربية المتحررة نفسِها، ثم جاء انتصاراً لقيادة الرئيس عبد الناصر بالذات بوصفه قائدَ معركةِ التحرر العربي.
أميركا تعلم هذا كلَّه، فهي لذلك تشعر بالفراغ... وهي لذلك تشعر أنّ هيبةَ الاستعمار، أي مصالحَه وقواعدَه ، إنْ لم تكن قد زالتْ تماماً حتى الآن، فإنّ هذه الضربةَ الجديدة لا بد أن تسرّعَ بزوالها وتُجْهِزَعلى بقاياها في وقتٍ، إذا طال، لن يطولَ بحيثُ تستطيعُ بريطلنيا وفرنسا أن تجمعا قواهما وتعودا لمَلءِ الفراغِ ذاته.
إذن ، فمَنْ ذا يملأ فراغَ الاستعمارالبريطاني الفرنسي في "الشرق الأوسط" غير أميركا؟
ولكن أميركا الآن حائرة... كيف ، بأي وسيلة، بأيّ حيلة تقيم هيبتها مكان هيبةِ الدولتيْن المنهزمتيْن من بور سعيد؟ بأي وسيلة، بأي حيلة تُعيدُ أميركا للاستعمار توازنَه بنفسها في منطقة "الشرق الأوسط"؟
أميركا حائرة في هذا: أمامها إسرائيل، فهل تتخلّى عن إسرائيل وهي ربيبتُها وقاعدتُها في قلب القومية العربية؟
وأمامها العرب ، فهل تجهل أنّ العربَ يَرَوْن وجودَ إسرائيل في بلادهم صنعةَ يدٍ بريطانيّةٍ أميركية، وهل تجهلُ أنّ العربَ يَرَوْن محْضَ وجودِ إسرائيل في بلادهم خطراً استعمارياً يهدّدُ دائماً سلامتَهم وسيادتَهم ويعوقُ وحدتَهم وتحررَهم؟
وأمامها شيءٌ آخر، تسمّيه "تدخّل الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط "... وهل تجهلُ أميركا أنّ الاتحاد السوفياتي ليس مستعمِراً ولا غازياً ولا داعيةَ حرب ، وأنه حين يرتبطُ مع الدول العربية بنوعٍ من الروابط ، فإنما هي روابط التعاون المتكافىء؟ وهل تجهل أميركا مع ذلك أنّ التعاونَ المتكافىءَ معناه تحرّرُ الدولِ العربيةِ من التعاون المقيّد المشروطِ الذي هو الاستعمار، والذي هو "التعاون" الأميركي بالذات؟ وأمامها، مع هذا كلِّه حلفُ شمالي الأطلسي، فهل تتخلى عن حلفِ شمالي الأطلسي لتكون مطلقةَ اليدِ والإرادةِ في مَلءِ "الفراغ" الذي حدث في الشرق الأوسط، دون اعتراض من "حليفتيْها" بريطانيا وفرنسا؟ ولكن كيف تتخلّى عن هذا الحلف وهو عندها المناخُ الطبيعي للحرب الباردة التي لا تستطيعَ السياسةُ الأميركية أن تكونَ في غنىً عنها ولو يوماً واحداً في صراعها الهائل مع قوى التاريخ الجديدة الكاسحة ؟...
أميركا حائرة جداً، فهي تدور في فراغٍ هائل، لكي تملأَ "الفراغ" الحادث في "الشرق الأوسط" ، فهل تراها تخرج من الفراغ إلى الفراغ؟
*عنوان مقالة للشهيد حسين مروة في جريدة "الأخبار" في زاوية "من لحم ودم " (نُشرت بعد العدوان الثلاثي على مصر)