الى الرفيق الحر مصعب مليطات

يولد الفلسطيني طفلاً، بأنامل رقيقة لا تخمش سوى الهواء، لكنه سرعان ما تخشوشن يداه، ويدرك أنه لن يستطيع أن يخمش الهواء بأنامله الرقيقة لأن الفضاء حوله تسممه العساكر الصهيونية وتصادر حقه في استنشاقه بحرية دون كدر.

يولد الفلسطيني ويكبر في أعوامٍ قليلة. ففي العشرين من أبريل نيسان عام 1985 أكمل رفيقي الأسير مصعب عبداللطيف محمود مليطات عامه السابع والثلاثين، يكبرني مصعب حسابياً بأعوام سبعة، لكنه لابد يكبرني بسبعين حولاً بالتقويم الفلسطيني. يمر اليوم عاماً في أرضٍ تتفتح أعين أولادها على تجسيد تام لهيمنة الزمن العبري، فيكون تحصيل الماء والكلأ ونسمة الهواء عبئاً في كل ثانية، ويصبح واجب مقاومة الخضوع النفسي والمادي لوطأة هذا النير بطولة يومية يعيشها الفلسطيني.
وُلِد مصعب في بلدة بيت فوريك جنوب شرق نابلس بالضفة الغربية المحتلة فعلاً، الخاضعة شكلاً لسلطة فلسطينية لم يبقى فيها من فلسطين الا اسمها، في عائلةٍ دفعت على درب الجلجة الفلسطيني ثمناً باهظاً، الوالد شهيداً بعد أن منع الاحتلال وصوله إلى المشفى، والأخوين ماجد وساجد أسيرين محررين، أما أمجد مليطات فقد قدم دمه مع رفيقه يامن باقة ورد لفلسطين وعلى درب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 2004 بعد اشتباك دام أربع ساعات في نابلس. كتب مصعب عن تلك المعركة الباسلة:
"تقول الرواية أن أمجد وعند نفاذ ذخيرته، قذف بفولاذ مسدسه على أرتال الغزاة، وأنه لو لم تنفذ ذخيرته لقاومهم حتى الأبد. ويروي الرواة أيضاً، أن يا من أُصيب فتمترس في الليل، وضع حُلكة كل الليالي القاتمة أمامه وتزنر بكل الشهداء وبقي يقاوم، جسده ينزف وبندقيته تنزف رصاص. ويقولون أيضاً أن أمجد يمر عبر الوطن في المسافة ما بين متراسه وبين يامن المستند على دمه، يمر بين الطلقات، يشتبك ويطمئن على رفيقه ويعود ويشتبك، ويقال أن "أم الشدايد" لم تكن مع أمجد ولو كانت معه لشدت عضده، كيف لا و"البارودة خير من أمك .. يوم الحرب تفرج همك".
هذا بعضٌ مما كتب الرفيق مصعب مليطات عن استشهاد القادة يامن فرج وأمجد مليطات، ثلاثتهم وهبوا العمر لفلسطين على درب الحكيم جورج حبش، واليوم هو الخامس عشر من ديسمبر كانون الأول 2022، يقضي مصعب ليلته الحادية عشر في الأسر لدى العدو، هي محنة الأسر الرابع التي يخوضها مصعب، وقد قضى ما يقارب الثماني سنوات من عمره أسيراً. اليوم، يترك مصعب ابنته إيلياء وزوجته الرابضة الصامدة ويمضي بساق مكسورة إلى أسره الرابع.
في البداية لم أستطع مراسلتها، شعرت أن وطأة الموقف عليها أثقل من أن تحتمل التساؤلات، إنها تفكر في المناضل الذي مضى إلى مجهول، والزوج الذي خلا البيت من صوته الطيب، والأب الذي يفجر غيابه تساؤلات الحبيبة إيلياء عن مصعب الذي كتب إلى صغيرته ما ستفهمه حين تكبر عما قريب عن التحقيق وأقبيته التي مر بها سابقاً ويمر بها اليوم من جديد محروماً من كل حقٍ قانوني ولو شكلاني يسمح بحضور محاميه معه أثناء التحقيق، كتب مصعب يقول:
"هناك يا صغيرتي .. حيث كل شئ مصنوع للموت، حيث الرمادي يغطي كل مساحة الكون ويصيبك بعمى الألوان، حيث الرطوبة والجوع والبطش ..
- وكيف صمدت؟
- لقد كنتِ معي، تزيحين عني غبار المعارك بين كل جولة وجولة، وتصلين لأجلي بين كل نصرٍ وآخر.
- وكيف أتيت إليك؟
- رأيتك بالأغاني، فالأغاني هناك يا سيدتي صوت ابتهالات أرواحنا للحياة والأمل، وحنيننا الأبدي لجفرا وللكنعانيات الموشحات بالحقول.
- وهل شاهدوني معك؟
- لا، لا تخافي، خبأتُك في عيوني، وغدوتِ حقلاً من سنابل، فأيقنوا أن الحب يحاصرهم وكفوا عن الأسئلة."
أحالتني أسيل مليطات زوجة ورفيقة درب مصعب إلى هذا النص، وهي تخبرني أن مصعب موجود حالياً بتحقيق بتاح تكفا، من منزله إلى التحقيق مباشرة، وقد كنت ساذجاً إذ سألتها هل رأيتيه، فألقت بوجهي بأنه لا هي ولا محاميه استطاعوا رؤيته، وأنه يوم الأربعاء الماضية -07 ديسمبر كانون الأول – تم التمديد له ثمانية أيام تجددت بالأمس، وبينما كان من المفترض أن يتمكن مصعب من رؤية محاميه، أبلغها المحامي أنه تم تمديد منعه من رؤيته.
ليس هذا شيئاً مغايراً لما هو متوقع من دولة الحرب الصهيونية، ففي بنائها الفاشي، الفلسطيني عدوٌ أبدي، وبينما تتمسك الأيديولوجيا الصهيونية بهذا الموقف من الفلسطيني والعربي، يندفع فلسطينيون وعرب من كافة الجنسيات للتطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني دون محاولة لتبرير تلك الشراكة الاستراتيجية التي دشنها الكمبرادور العربي بدءاً من مفاوضات الكيلو 101 وانتهاءً بكل ما جرى ويجري على وجه الإقليم. إن هذه الشراكة تجري فوق بحار من الدم سالت وتسيل، وهي شراكة تؤكد التقاء البرجوازية العربية مع الصهيونية على نفس الأرضية، أرضية العداء للجماهير الشعبية العربية.
يحق للفلسطيني أن يجمع زيتونه ويستدفئ بشمسه، وحين حاول مصعب يوماً أن يجرب هذا الحق، كُسرت ساقه واستلزم الأمر عمليات جراحية لتثبيت شرائح، وقد دهمتني أسيل إذ أخبرتني "أخدوه ع العكازات"، لتعزز مخاوفي، مخاوف من يعيش على هامش العالم هانئاً، بينما مصعب المقاتل يواجه سجانه الفاشي بساق واحدة، وزوجته تطمئنني "ما تقلق ع مصعب، مصعب حدا كتير قوي وجدع وقدها."
يولد الفلسطيني طفلاً، يزحف على شوك الاحتلال، فيصير رجلاً، ونولد نحن أطفالاً، نكبر ببطئ على سيرة الأبطال الفلسطينية فنتعلق بهم، ونتعلم. كان مصعب مليطات يحادثني عن أخيه الشهيد والجبهة وأزمتها، كان هو من دلني على كنز الوثائق الخاصة بالجبهة والتي تم تحميلها على موقعها الرسمي. استمسك مصعب الماركسية، واستمسك بأنها السبيل الوحيد لخروج الجبهة من أزمتها، وقد كان دوماً ناقماً على تمسك الجبهة بما يسمى بالوحدة الوطنية مع فصائل ساهمت في الماضي عبر الاستيلاء على منظمة التحرير بتصفية الثورة الفلسطينية وتسليم سلاحها والتحول لأجهزة أمن للاحتلال لكن بشارة فلسطينية. كما استمسك بصمود رفاقنا المعلمين في أقبية التحقيق، الرفيق الشهيد ابراهيم الراعي والرفيق الأسير الأمين العام أحمد سعدات، فصمد في تجاربه السابقة وسيصمد أيضا هذه المرة. على درب جورج حبش دفعت عائلة مليطات المناضلة نصيبها من الثمن الذي يقتضيه وجود الاحتلال، إنه الثمن الذي يجعلنا قادرين على أن نقول أن هناك أمل في مستقبل بلا صهيونية، أي مستقبل بلا وطن قومي لليهود على الأرض الفلسطينية، مستقبل لا يقوم سوى بالتصفية المادية للتنظيم السياسي والعسكري اليهودي على الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر، مستقبل بلا رأسمالية، بلا احتكارات، بلا استغلال. هذا هو المستقبل الذي يمثله رفيقي الأسير مصعب عبداللطيف محمود مليطات. وهو المستقبل الذي نراه حتمياً.
الحرية لمصعب مليطات!
الحرية لفلسطين!
الموت للصهيونية!

 

  • العدد رقم: 411
`


راجي مهدي