في مقالٍ مُعنوَن «أحزابٌ بائسة، شباب مُبأَّس» في العدد الأخير من مجلّة «النداء»، عُرضَت نقاطٌ تطال سياسة الأحزاب ربطاً بالبُنى النفسية للفئات الشابّة، مع خلاصةٍ مفادها أنّ «أحزاب لبنان، من دون استثناء، أحزابٌ بائسة، عدوّة للفرح وللشباب. والشباب المُقيم في لبنان شبابٌ مُبأَّس، بشكل مقصود، وفق منهج تبئيس الأكثرية».
لكنّ النُقاط المعروضة لا تزال بحاجة لتوسيع ولجهدٍ مُلقى بشكلٍ أساس على المعنيّين بالموضوع أنفسهم: الشبيبة (كفئة عمريّة)؛ ذلك أنّ لا الأحزاب تضع المسألة النفس- سياسيّة على جدول أعمالها، ولا الإعلام التقليدي، ولا المناهج التربوية، ولا حتّى الكُتّاب والمفكّرين المحليّين (بمعظمهم)؛ ما يُحتّم على الشبيبة صياغة برنامج خاصّ بهم وبموقعهم الاجتماعي.
في ما يلي حجر زاوية صغير، بنود من «مانيفستو» مزعوم ومحاولة لمنهجته، قد تكون صائبة- أو لا، وهي لا شكّ قابلة للتعديل، وتحمل التبويب التالي: المَسكن- المسألة الجنسية- الفن والثقافة- الجامعة- السياسة.
المسكن
في أهميّة أن يكون للشبيبة ولو غرفة واحدة مستقلّة- وهي أعظم ممّا تبدو.
يعزّز الاستقلالُ السكنيُ الاستقلالَ النفسيَ للشباب، فيما تُعزّز إطالة أمد بقائهم في منزل الأهل خضوعهم لسلطة الأهل وقوانينهم- التي هي في الأغلب قوانين رجعية؛ بصرف النظر عن مساحة الحريّة المزعومة التي يحاول بعض الأهل تقديمها. يكفي أن يخوض شابّ/ شابة التجربة، ليرى مساحة الحريّة الفعلية وتقرير المصير الذاتي في وحدته السكنيّة المستقلّة، واتّساع مروحة الأنشطة الاجتماعية المُرافقة لهذه النقلة.
أمّا في انهيارنا الراهن، وعلى المدى الطويل، سيكون من المفيد تتبّع انعكاسات وقف قروض الإسكان بالتزامن مع ارتفاع الإيجارات ودولَرَتها: ستُقارِب نسبة الشباب المستقلّين عن منزل ذويهم الصفر، حتّى أن نسبة حديثي الزواج القاطنين في منزل ذويهم ستزيد؛ وبهذا، تتوسّع ظروف التسلّط وتضيق المساحة الخاصّة بشكلٍ هرميّ داخل المنزل الواحد. «فالتعلّق بالأهل وبالبيت الأبوي عامل قوي من عوامل الكفّ [النفسي] غير القابل للعكس».
بهذا المعنى، تُصبح مطالب مثل «ضريبة على الشقق الفارغة» أو احتلالها، و«تأميم سوليدير»، والبحث بخططٍ سكنية جديدة، مطالب سياسيّة تطال الشباب في المقام الأوّل، ويُفتَرَض بهم حملها.
المسألة الجنسية
المفتاح دائماً وأبداً.
يقتضي التوضيح بأنّ استخدام مصطلح «الجنسية» بهذا السياق يتماشى مع التعريف الفرويدي لها، أي ما يتخطّى الموضوع الجنسي بمعنى العلاقة الجسدية، ليشمل كل ما يمكن أن يؤمّن لذّة للفرد. فيصير الحديث عن متعٍ جنسيّة يطال السينما والمسرح والرقص والرياضة وهوايات أوقات الفراغ، والجنس، وبشكلٍ أو بآخر، مع سحب هذا التعريف إلى أقصاه: النشاط الفكري، أو الطلّابي أو العسكري أو الحزبي.
بهذا المعنى، تصبّ المسألة الجنسية في صلب تطلّعات الشباب، وتجذبهم.
ولو سلّمنا أنّنا نقيم الربط بين السياسي والنفسي هنا، لناحية الممارسة والتنظيم، فيصبح أنّ إلغاء «اللذة» من النشاط الحزبي مثلاً، واستبدالها بأجواءٍ غير صحّية ومضرّة وفيها علاقات ذكورية وأبويّة، وفيها أبطال وهميّين يقصّون تاريخهم المملّ على شباب اليوم من دون أن يتقبّلوا أن الزمن يسير إلى الأمام، وتطغى في هذه الأجواء المؤامرة على التنسيق، والأنانيّة وطمع الوصول على العمل الجماعي، وتُهمَّش فيها الاهتمامات الفرديّة واختلاف الميول الفكرية والجندرية وغيرها… فهذا كلّه يشكّل ديناميّاتٍ تنبذ الشباب عن التجمّعات السياسيّة، عوضاً عن جذبها.
تصبّ المسألة الجنسية إذاً في صلب تطلّعات الشباب، وتجذبهم، ومن المفيد البناء عليها. أمّا علاقتها بالسياسة، فتُختزَل وفق مقولة: الكبت النفسي يولّد ميولاً سياسيّة رجعية، والعكس، وهذا ما وُسّع في المقال السابق.
«وإنّ لَمِن الحقائق الواقعة التي لا مُماراة فيها، أنّ الشبيبة اليوم، ومن أكثر من زاوية، أكثر تقدّماً من القادة الذين لا يرون غير فائدة «تكتيكيّة» في أشياء من قبيل الحياة الجنسية التي هي عين البداهة بالنسبة إلى الشبيبة»، ولذلك، فإنّ مسؤولية رفع شعار الحريّة الجنسيّة تقع على عاتق الشبيبة بالتحديد.
الفن والثقافة
يتقاطع هذا البند مع ما سبق، بمعنى تأمين اللذّة، من دون أن نتبنّى القسمة القائلة بوجود فنٍّ وثقافة راقيَين مقابل فنٍّ وثقافة مُبتَذَلَين، فالثقافة لا تعني في هذا السياق درجة تثقّف الفرد الواحد وعدد الكتب التي قرأها، والفن لا يعني ما هو حكرٌ على النخبويّين والصالونات الفنّية. لذا نتبنّى قسمة الفنّ والثقافة التقدّميَين مقابل الفنّ والثقافة الرجعيَّين.
بهذا المعنى، قد تكون أغنية راب عفوية أكثر تقدّمية من شعرٍ عامودي، وتكون مسرحية للرحابنة أكثر رجعيّةً من مسرحية لطلّاب جامعيّين لم يتخرّجوا بعد، الخ… عموماً، ممكن أن تُسمّى هذه القسمة فن وثقافة ثوريّين مقابل فنّ وثقافة برجوازيين.
بعيداً عن الأمثلة، فإنّ الفن والثقافة يشكّلان من جهة المجتمع أحد أبرز ميادين الحياة اليوميّة، وفرصةً للاختلاط بين الجنادر والميول والطبقات والطوائف. ومن جهة الفرد، فهما من أشكال «التعلية» النفسية sublimation والتعبير عن الوعي كما اللاوعي وترتيب الأفكار والمشاعر، ووثيقا الارتباط بالصحّة النفسية وتوظيفاتها في أساليب التعبير.
وما بين الفرد والمجتمع، تعزّز بعض الفنون وبعض تمظهرات الثقافة الأواصر ما بين الشبيبة نفسهم، مثل الدبكة، أو نشاطات نوادي السينما المُشترَكة، أو الرقص على عامود مترو المدينة ليلاً.
وما بين الفرد والمجتمع، توسِّع بعض الفنون وبعض تمظهرات الثقافة وسائل التعبير، التعبير عن أيٍ كان، ضمناً السياسة. من مسرح شوشو اليومي إلى نزل السرور إلى راب الضَبّور وشبجديد.
وما ذُكر للتَو، أي «ما بين الفرد والمجتمع»، يحتاج لطاقاتٍ جديدة ومتجدّدة لتنفيذه وخلقه، يحتاج للإبداع وللأفكار الخارجة عن الأورثودوكسية، يحتاج بشكلٍ خاص لجهود الشبيبة لتحميل الفن والثقافة مضامين تقدّمية، تعبّر عن هموم الجماهير كما عن إبداعات الأفراد. فنٌ وثقافةٌ يُغَيّران، يُغَيّران ولو شيئاً ما على الأقل- وبكلمات أندريه بروتون السُرّياليّ:
«تحويل العالم» قال ماركس؛ «تغيير الحياة» قال ريمبو: إنّما هاتَين المقولَتين ليستا سوى واحدة بالنسبة لنا.
الجامعة
[لنا عودة إلى هذه النقطة في مقالٍ خاص عن الشبيبة والعمل الجامعي]
السياسة
هنا العمل. وقد جاءت هذه النقطة في المقام الأخيرة كونها تحمل معنيَين:
- التسييس:
وهو ليس «مسألة»، بل منهج، طريقة لمقاربة الأمور، بمعنى الاتّجاه إلى إقامة التعارض في كل ميادين الحياة، ومعالجة هذه التعارضات وفق ما يرتبط بالسياسة بالمعنى الواسع للكلمة. والتسييس (وزن تفعيل) يحمل فاعلاً، أي أنّ هناك من يتوجّب عليه القيام بهذه المهمّة، والمهمّة ملقاة هنا على الشباب بشكلٍ خاص كونهم الفئة الأنشط اجتماعيّاً. فتصير صيغة العمل السياسي على شكل «تسييس مسألة السكن، تسييس المسألة الجنسية، تسييس الفن والثقافة، تسييس العمل الجامعي»… وصولاً إلى تسييس كافّة ميادين الحياة، وبالأخصّ تسييس الطموح نحو السعادة.
- السياسة بالمعنى الضيّق:
وهو العمل السياسي المباشر. لكنّ السؤال عن موضوع هذا العمل: هل يعني مراقبة زيارة ميقاتي لقصر بعبدا، أو إسقاط مقاربات فكريّة على الواقع من خلف المكتب، أو شرح قواعد الاقتصاد وتحليلاته للعامل، أمّ، هو النشاط السياسيّ الوثيق الصلة بالحياة اليوميّة للجماهير؟
تفسيرنا للسياسة هو الشقّ الثاني من السؤال. وعلى الشباب أن يتحلّوا بالمرونة الكافية ليتواجدوا حيثما وُجدَت الجماهير، وليتعاطوا بالـ«يوميّ»، ميدان السياسة الفعلي. ولفكّ الطِلَّسَم، يأتي سؤال تحديد هذه «الجماهير»، وهي الشبيبة نفسها والعمّال والفئات الاجتماعية المُهمَّشة، والقاعدة الإنتاجية للمجتمع والتي تعاني من الاستغلال بالمعنى الطبقي المباشر، وصولاً إلى تلك التي تعاني من استغلالات، طبقية وجندرية وقومية وحتّى طائفية.
على الشبيبة إذاً أن توظّف طاقاتها في خدمة هذه الفئات أوّلاً، وفي تلقّف ثوريّتها ثانيّاً، على أن يكون الكلام بلغة الجماهير نفسها، لا بلغة المعاجم الاقتصادية والسياسية. «باختصار، تتميّز السياسة الثورية عن كل ضرب من السياسة البرجوازيّة بوضعها السياسة في خدمة تلبية حاجات الجماهير، بينما تبني البرجوازيّة سياستها كلّها على الزهد والتنازل الملقَّنَين للجماهير على مدى التاريخ».
إذاً المسكن والمسألة الجنسية وفن والثقافة والعمل الجامعي والسياسة، خمسة بنود لنحملها كشبيبة. يبقى أنّ «وعي الشبيبة لحقّها في تنظيم حياتها الخاصّة سيُرغمها على القتال في سبيل هذا الحقّ. وكل ما تفتقده هو سند، تنظيم، حزب يفهمها ويبذل لها يد العون ويُحامي عنها».