دمعة حارقة كالصديد

هكذا اكفّ قليلاً، عن عبث المسافة واخترعْ لِنفسي كلَّ يوم عودةً ما إلى الوطن البعيد. ما كان النَوم متاحاً إلاّ في ساعات متأخرةٍ من الليل، أو في أختها المبكرّة من صباح الليل. ورأيتُ تدفُّق الحدث الدامي وكبرياء الألم في بيروت. حاولتُ إشغال نفسي بأمرٍ مّا حتى أتجنّب الحقيقة المُرّة. ولكن.. تعب الغربة، جحيم الوطن الذي كتبناه على لحمنا ونثرناه في أغانينا لم يسعفني في الهروب من القلق المريع. كلِّنا على قلق! نحتاج إلى خارقٍ ومعجزة!

كيف نقايض " كلّنا للوطن " بغبار الدمار المغزول بالدّم والنَّار؟ كيف انكسر والد " ألكسندرا " كما ينكسر السرو العالي؟ سحبوا منه طفلته، وعلقوها على الهواء لتصير " نجمتنا " وَيَا " عَليّ جئتَ إلى المرفأ من اجل كيس طحين لتحمله فطحنتك الإهراءات وتلك الأم الثكلى، المتشحّة بالسّواد، تنادي ابنها " الحِلو " ذو العيون العسليّة. من الذي أهالَ على جسده المرهَف تراب التعب؟ نهنهة البكاء لذلك المولود الجديد، الخارج لتوّه من رحم أمه في المستشفى المنكوبة.

أيها الطفل الجميل، لا أستطيع أن أتخيلّك من غير أم ٍ ومن غير أبٍ، وسأنثرُ عليك ما في وسعي أن أنثر من زهر . . . ثمّة كلب يعوي في ليل المدينة منتظراً عودة صاحبه الذي لم يعد والذي طيرّه الانفجار الكبير وتبخّر.

كُثُرْ كانوا هناك: فوج الاطفاء، العروس النائمة، الناطور بثيابه المهلهلة، صياد السمك بقصبته المتهالكة، الرجل الذي يقف عارياً مصدوماً، محموماً، رافعاً ذراعيه نحو المنتهى في محاولة مستميتة لالتقاط المراكب السابحة في الفضاء. لا حدّ، أبداً، لطاقة الأسى والعجز عن الامساك بأطراف سحيقة. سماء من دخان، أجساد تتسلّق الفضاء الشاسع، نتطلّع بأبصارنا وبصائرنا الكليّة لنرى الحد الفاصل بين ما هو واضح وما هو غامض.

بكاء عاصف، من يملأ فراغ الذين رحلوا؟ من يملأ هذا الفراغ؟ ما جدوى هذا العبث؟ هنيئاً لأولئك الذين بلغوا الفردوس! من ينتشلنا من هاوية السقوط المدوّي؟ من ينسانا تحت الركام على ضفاف الميناء؟ أين سترسو السفن؟ وأين سترسو أحلام المدينة؟ أفي وسع القمح أن ينبت في ساحة الشهداء ويصعد إلى السماء!

أعترف بأنني مخطوفٌ، الآن، إلى أمكنة الطفولة في بيروت، وأخشى أن أشي ببوح " حميم " في وحشة قلبي المنطوي في العزلة . . . يعود فيَّ الولد، الذي كنتُهُ ليشتاق إلى مدينته الاولى. كانت المدينة تستهويني، وكنت أذرعُها وحيداً في المساءات. طليقتان قدمايَ تَعْويان في الفضاء. كان ذلك عندما جئتُها، على صهْوة حلميَ المبلّل برذاذ الطفولة، لأدرس في معهدها وعينايَ تَمسحان الناسَ والواجهات وسحرها الخرافيَّ من شارع لآخر. ثمّ أتى الرصاص وأتت بعد حين الأغنيات - العاشقات ينتحرن على شرفةِ وتر تنقره الاصابع في جنون ريشة النسر.

هكذا سكنتني المدينة وروضّت صوتي على الوداعة. لم أعد قادراً على الحنين. أريد أي مكان في مكان المكان كي أعود الى ذاتي: إلى باعة الصحف يصيحون، ملءَ أصواتهم لاهثين، بالعناوين الكبرى، المقاهي الفائضة على الطرقات، أسواق المدينة وسط البلد، سوق الخضار، سوق العمومي، سوق النورية، سوق سرسق، ساحة البرج، ساحة النجمة، مستديرة رياض الصلح، الحمرا، كورنيش المزرعة، الأونيسكو، دور السينما، الريفولي، الروكسي، سينما إديسون، قصر البيكاديللي. الحنين إلى بيروت القبضايات وقنابيز وعِصيّ خيزران وشوارب مفتولة. سقا الله!

ما زال في وسع ذاكرتي البيروتية أن تدلني على تاريخ أول الأشياء، وأول الأسماء، وأن أخترع صورة في المخيلّة الطيبّة الهالكة في زمن الضجيج والوحشة . . . تنفتح المدينة من المرفأ والتي تصعد بلا تعب، وبلا ملل إلى تعرجات الجبال المحيطة لتصل القرى ببعضها. وكم كنّا نخشى أن تضيع منّا لحظة من فضائها الممتلئ بدهشة الحياة العامرة، وماذا أبعد؟! أصوات البواخر على رصيف المينا تئنُ، وإيقاعات أولى لقمر مكتمل ينزل من أعالي الجبال ليسقط في بحر بيروت.

من أين أدخل في الوطن؟
من أين أخرج من الوطن؟
لُذْ بالفرار قبل أن يهبط السقف عليك.
أخرج من بابه البيعَتْ أخشابه.

من نافذته الغربية التي سُدَّتْ بوجهك كي لا تتنشّق هواء البحر، النهاية حتمية، الكل يعرف، من القبطان إلى البحّار إلى ملاّح الصيانة . . . قوارب النجاة قد ابتعدت وعلى متنها السارقين والفاسدين وكلابهم وبنادقهم وصناديق أمتعتهم وعطورهم وخمورهم وخزانات حديديّة عليها أسماءهم المستعارة، محكمة الاقفال لا تُحرقْ ولا تَغرقْ، تقاوم الانفجار والإعصار.
بوصلة سقطت من جيب بحّار عتيق. لا شرق فيها ولا شمال، ولا جنوب ولا غربْ، كيفما قلبتها، أشارت بلا مبالاة إلى القعر. لم يبق حيّ سوى الموت.
يتراكم الزجاج على الرصيف وتغيب الميناء، ونَشقى في الشقاء مثل سفينة تهب نفسها للضباب.
ما هذا الزمن؟! أرى ولا أرى! أسمع ولا أسمع! الزجاج المتناثر مثل الدموع يغطي العيون. دمعة حارقة كالصديد.
ولكِ سأغني!