الحركة الطلابية... بين التجريبي الخادع وعقم النظرية


في خضّم المعمعة الحالية في الأوساط السياسية والإجتماعية اللبنانية وبعد عاصفة انتفاضة 17 تشرين وما تركته من تحوّلات جذرية على الوعي الجماهيري وعلى البنية الاجتماعية اللبنانية، ظهرت الحركة الطلابية بأطرافها العديدة، حركة رائدة وطليعية على رأس معركة التغيير في لبنان. تجلّت الحركة الطلابية التقدمية في تكتلات وأندية علمانية خاضت انتخابات المجالس الطلابية في معظم الجامعات الخاصة وحققّت انتصارات لا يستهان بها معبّرة عن تحوّلات و تقلّبات مهمّة في وعي الشباب السياسي. من الأساسي اليوم تقييم عمل الحركة الطلابية بإنصاف، للإضاءة على نجاحاتها و نقض أخطائها و فهم أسباب إخفاقاتها في بعض المحطات الحسّاسة في المعركة الدائرة بينها و بين الاوليغارشيا المهيمنة.


أمّا السؤال الجوهري الذي نطرحه والذي ننطلق منه في تحليلنا هو: " كيف نحلّل تركيبة الحركة الطلابية و ما هي أبرز نقاط ضعفها التي تمنعها من تحقيق مَهمتها الثورية؟" يمكننا ودون الخوض في تفاصيل هذا الاستنتاج تحديد تيارين يشكّلان لبّ الحركة الطلابية اليوم. سنعرض من خلال هذه المقالة أسباب ضعف كلّاً من الطرفين لنستنتج في نهاية النقد أين يفرض علينا المنهج العلمي إعادة النظر لننطلق منه إلى تصيح المسار لانبثاق حركة طلابية صلبة، متينة قادرة على مجابهة التهديدات المُحدِقة بالفئات الشعبية. أولاً يجدر بنا تحديد التيارين موضوع دراستنا هما: التيار النظري أو كما أٌلقّبَهُ.. التيار السفسطائي والتيار التجريبي العفوي. يدور نقدنا هذا حول الموضوع الفكري الذي عبّر عنه لينين بشكل صريح حينما قال "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية". في تعبيره هذا، لم يقصد المفكّر البتّة تغليب أحد طرفيْ المعادلة على الآخر كما يتراءى للقارئ السطحي. فتأكيد عكس ذلك يأخذ المرء حتماً إلى أروقة ومزاريب الفلسفة المثالية أي إلى التأويل المثالي الذي ينافي كلّياً المنهج المادي العلمي. ننجرّ إذن، إلى جدالات بيزنطية منفصلة عن أرضية الواقع التاريخي وصراعاته كجدل أوّليّة التجربة على الفكرة أو العكس الذي يرسم في أذهاننا انقسام وهمي بين مدرستين، هما في الحقيقة أبناء الفكر المثالي عينه. المنهج الماركسي يفرض علينا اعتماد نظرة أوسع وأشمل لحركة التاريخ وديناميكيتها. فكما حددّ مهدي عامل في محاضرته "الثقافة و الثورة": يستحيل الوعي النظري قوّةً ماديةً تَدُكُّ أعمدة القائم، وتهيّئ لولادة الجديد"و هذا بالضبط ما يغفل عن معرفته أنصار التيار النظري السفسطائي الذين ينجحون بشرح المفاهيم الماركسية وتحليل الواقع الاجتماعي الطبقي من خلال نشر صور أو فيديوهات موجزة ولكنهم يخفقون شرَّ إخفاق في تكوين حركة مادية متماسكة على الأرض؛ فيبقى جهدهم محدوداً ضمن إطار الشرح الفلسفي والتنظير العقيم، محصوراً بفقّاعة من المثقّفين الثوريين، عاجزاً عن اختراق الوعي الشعبي. ينتفي إذن، الطرف الأول من معادلة لينين المرتبطة بالحركة الثورية. من مشاكل الخطاب المطروح من قِبل هذا التيار أنّهُ بأمتهانه وظيفة "الدعاية الثورية" يشكّل عند الأفراد المشاركين في نشره نوعاً من الإحساس بالرضى والاكتفاء ممّا يؤسس "لوعي موازي" في عالم فكري حلمي منفصل كاملاّ عن الواقع المادي الحالي. هذه الآفة النظرية تندرج ضمن نظرية النشاط المزيّف التي طرحها المفكّر سلافوي جيجيك وقد حللّ.. إن هذه النشطات لا تؤثّر في الصراع الدائر مع الطبقة الحاكمة، إنها بالعكس تماماّ، تُشرِّع لحكم هذه الطبقة وتفرّغ العزم الثوري من النفوس بخلق نوع من "الكتارسيس" النضالي، أي "تنفيس" للاحتقان أو كما يقال بالعامية "فشّة خلق" نضال كاذب لا يؤذي، مسالم، على هامش حركة التاريخ والصراعات الدائرة.
العقدة الأساسية، إذن، عند التيار النظري التي تقف حجر عثرة أمام بناء المشروع الثوري هي طابعه الشعري والتي يمكن توصيفها بالزهد النظري المتعالي عن تجاذبات العصر. طرح مفاهيم كنظرية الاغتراب أو الهيمنة الطبقية بدون ترجمتها على أرض الواقع بحركة ثورية موحَّدة لا تعيق السيرورة الثورية و حسب، بل تعطّلها. نعود إلى معادلة لينين المطروحة في بداية المقالة أي إلى التوازن القائم بين الحركة الثورية و النظرية الثورية كما حدّدنا آنفاً إن الواحدة تنتفي بانتفاء الأخرى فتشلّ المسيرة الثورية لأيِّ حركة طامحة للتغيير. في ما خصّ التيار التجريبي العفوي، فإنّ تحليله لا يقلّ أهمية عن تحليل التيار الأول. فإعاقة التيار التجريبي للحركة الثورية تكمن على عكس التيار الأول، في تهميش الشقّ النظري والفكري بالاعتقاد أن الثقل العددي على الأرض والضغط الشعبي العفوي يكفي للدفع بعجلة التغيير قُدُماً. هذا هو الفخ التجريبي الذي وقع به التيار العفوي المنافس للأول النظري. حول هذا الموضوع، قال مهدي عامل " ضدّ الظاهر من الأمور وضدّ الوعي المتسطِّح في البديهي وضدّ التجريبي الخادع ضدّ الفكر البرجوازي ينبني الفكر العلمي..." نلاحظ جيداً أن مهدي بصياغته للجملة ربط الوعي البديهي والتجريبي الخادع بالفكر البرجوازي، فعلينا الإدراك جيداً أن هذا الربط لم يأتِ عن عبث أو عن هفوة لغوية. شبْك التيار التجريبي السطحي بالفكر البرجوازي يدل على علاقة بنيوية بين الإثنين.
لتوضيح هذه المسألة، نستند إلى كتاب "مدخل إلى نفض الفكر الطائفي" الذي يوضح فيه مهدي عامل أن لغة الايديولوجية البرجوازية المتمثلة في الكتاب بنصوص ميشال شيحا (منظّر البرجوازية الاول) هي لغة التبسيط و "البداهة". بالتالي يتحدّد التيار التجريبي غير الآبه بالنظرية كفرع من فروع الفكر البرجوازي، فهو يستحيل فكراً نقديّاً ثوريّاً يرمي لهدم النظام القائم. من الجدير الذكر أيضاً أن مهدي عامل كان قد حدّد إنّ أيِّ محاولةِ نقضٍ للفكر البرجوازي المسيطِر لا يمكن أن يتحقّق إلّا من موقع طبقي نقيض أي من موقع الطبقة الشعبية الثورية، فالفكر البرجوازي مستحيل أن ينقض الفكر البرجوازي. فالحركة الثورية يجب أن تستند إلى نظرية تعاوِنُها في فهم الواقع وإدراك الظروف التاريخية التي تعمل في صلبها. بدون سند نظري تبقى الحركة الجماهيرية تائهة عُرضى للتقلبات والانشققات ومن ثَمَّ التحلُّل الداخلي. نقولها بجهارة إن الواقع الذي نعيش فيه و البنى الاجتماعية التي نجمت عن نمط الإنتاج الرأسمالي بالغة التعقيد خصوصاً ضمن الرأسمالية التبعية الكولونيالية الموجودة في لبنان، فلا يمكن أبداً أن تجتزئ الحركة الطلابية معركتها الحالية مع الجامعات الخاصة من مجمل الصراع الطبقي المحتدم الذي يشهده المجتمع بأسره. وجود أيِّ حركة شعبية تتنكّر لأهمية النظرية والجهد النظري تكون ببساطة قد وقّعت وثيقة وفاتها فتصبح فريسةً سهلةً لأجهزة الدولة الايديولوجية والقمعية معاً.
المشكلة الرئيسية الذي يواجهها خطاب هذا التيار التجريبي الخادع هي تناقضاته الداخلية والتضارب المنطقي والمنهجي في أهدافه. من ناحية يريد تقدّماً اجتماعياً ثورياً ومن ناحية أخرى يجهل أو يتجاهل عِلم الثورة. نستنتج، إذن، أنّ الحركة الطلابية اليوم تعاني من ازدواجية تيارين يتنافسان لخوض معركة لا أملَ لهما للانتصار فيها. بعد المطالعة النقدية الذي عرضناها، يستوجب منّا كطلاب أن نعيد النظر في التوجّه العام لحراكنا وأن نصحّح الثغرات الفكرية والعملية وأن نعمل على توحيد المسار الشعبيّ الطلابي الفعّال تحت مظلة النظرية الثورية.. أعني الاشتراكية العلمية المتجسّدة اليوم بتيار راديكالي متنامي بين الطلاب والشباب يجمع في الوقت ذاته الأسس النظرية الضرورية والترجمة الحركية المادية على الأرض فيتناغم الفكر بالواقع و يخوضه بخطوات وثيقة.
قائمة المراجع:
• "مدخل الى نقض الفكر الطائفي"-مهدي عامل
• "في الدولة الطائفية"-مهدي عامل
• "الثقافة و الثورة" (محاضرة)-مهدي عامل
• “In defence of lost causes” Slavoj Zizek: