استراتيجية ترامب في مقاربة الأزمة الأوكرانية

فاجأ إعلان ستيف ويتكوف، المبعوث الأمريكي الخاص للرئيس ترامب، عن اقتراب التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب في أوكرانيا بعد محادثاته مع بوتن، الكثيرين. فالوضع على الجبهة لا يوحي بأن احتمالات التوصل إلى سلام أصبحت كبيرة.

في الواقع، لا بد من فهم السياق العالمي العام التي تندرج ضمنه المفاوضات الروسية-الأمريكية-الأوكرانية حتى نتمكن من فهم استراتيجية ترامب في مقاربة الأزمة الأوكرانية. ولا بد أن نأخذ موضوع الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن على دول العالم بعين الاعتبار حتى نتمكن من رسم ملامح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.
لو بدأنا بالرسوم الجمركية! من الواضح أن واشنطن تريد من خلالها القضاء على العجز في التجارة الخارجية الأميركية؛ فهذا العجز يؤدي إلى زيادة الدين الخارج، ويسبب مخاطر كبيرة للنظام المالي والاقتصادي الأميركي. لذلك يعرض ترامب على جميع الدول صفقة، مفادها: إما شراء المزيد من السلع الأمريكية وتوسيع إمكانية الوصول إلى الأسواق الأمريكية في المقابل، أو سيتم فرض الرسوم الجمركية.
رفضت الصين فوراً، لذلك تواصل الولايات المتحدة حربها التجارية ضدها. بالمقابل أعربت العديد من بلدان العالم عن رغبتها في التفاوض مع واشنطن، ومن بينها دول الاتحاد الأوروبي. وتجري حالياً مناقشات لصفقات أسلحة بمئات المليارات من الدولارات مع واشنطن، فضلاً عن زيادة إمدادات الطاقة من الولايات المتحدة لأوروبا.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن أوروبا تشتري 80% من احتياجاتها العسكرية من الولايات المتحدة. كما أنها تخطط للتخلص من التبعية للغاز الروسي بحلول عام 2027.
فضلاً عن ذلك، لدعم خطط التسلح الجديدة، صوّت البرلمان الألماني (البونديستاغ) في منتصف مارس الماضي على التعديلات الدستورية التي تقضي برفع سقف الدين الخارجي، فهذا السقف كان محدداً بنسبة 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي في عهد المستشارة ميركل، وألمانيا هي محرك الاقتصاد الأوروبي.
بالمقابل، تلعب الصين لعبتها الخاصة مع أوروبا، وتحاول إنشاء تحالف مناوئ للولايات المتحدة، وهي في نظر ترامب التهديد الرئيسي.
تُعتبر علاقة الصين مع روسيا من أهم عوامل الاستقرار الاستراتيجي لها. فالصين قادرة على الوصول إلى الموارد الطبيعية الروسية، وبالطرق البرية، الأمر الذي لا تستطيع الولايات المتحدة مراقبته أو التحكم به، على عكس الطرق البحرية.
علاوة على ذلك، فإن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك ترسانة نووية مماثلة لتلك التي تمتلكها الولايات المتحدة، وهو ما يجعل الحل العسكري مستحيلاً في مواجهة أي تحالف يضم روسيا.
بناءً على ذلك، فإن مهمة ترامب هي منع المزيد من تعزيز العلاقات بين روسيا والصين، وقد يكون في نية ترامب أيضاً محاولة إعادة روسيا إلى "الغرب العالمي" أو "الشمال العالمي"، فنشوء مثل هذا التحالف سيخلق مجتمعاً متقدماً مكتفٍ ذاتياً عسكرياً واقتصادياً، و سيكون قادراً على رسم ملامح النظام الدولي والسياسة العالمية لعقود من الزمن.
في الواقع، يتطلب الطرح الأخير، أي إنشاء كتلة "الشمال العالمي"، مزيداً من البحث والتمحيص، و قد تتبلور بعض ملامح إمكانية تحققه في المستقبل القريب، لأن هذا يعني تغييراً جذرياً في النهج الأمريكي! ففي العقدين الأخيرين، قام النهج الأمريكي على مسلمة أنه من غير الممكن أن تكون روسيا-بوتين حليفاً للغرب، أو حتى شريكاً، و بالتالي كان من الضروري تحقيق: إما تغيير السلطة في موسكو أو تفكيك روسيا إلى كونفدرالية. وكان يُنظر إلى الحرب الحالية في أوكرانيا على أنها وسيلة لتحقيق هذين الهدفين، هذا إضافة إلى زيادة تبعية أوروبا الخائفة من روسيا للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن، حتى قبل وصول ترامب إلى السلطة، أصبح واضحاً أن احتمال هزيمة روسيا ضعيفاً للغاية، وأن إمكانية تغيير السلطة في الكرملين أو انهيار روسيا هي مجرد أوهام، و خاصة بعد فشل أوكرانيا في الهجوم المضاد عام 2023 وفشل "تمرد بريغوجين". فضلاً عن ذلك، تزايدت مخاطر استمرار الصراع، وخاصة إمكانية انجرار الدول الغربية إلى هذه الحرب، التي قد تتحول إلى حرب نووية في أي لحظة.
ولكن، بغض النظر عن هذا وذاك، هناك مجموعة من العقبات تواجه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة:
1-بريطانيا
هناك مواجهة جيوسياسية خفية بين لندن وواشنطن؛ ففي ظل هذه الفوضى الدولية المتزايدة، يحاول البريطانيون استعادة نفوذهم في العالم من خلال إنشاء تحالفات مع مختلف اللاعبين الإقليميين، على سبيل المثال، مع تركيا، وربما أيضاً مع أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق.
في هذا السياق، جدير بالذكر موقف رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، السيد ريتشارد مور، الذي يؤكد أن اقتباسه المفضل:
(من الناحية الجيوسياسية، لم يعد أحد بحاجة إلى وجود روسيا، ولا حتى روسيا نفسها)
لذلك – بالنظر إلى الكفاءة المهنية العالية لـ (مور) – يجدر اعتبار هذا الاقتباس بأنه مشروع طويل الأجل تعمل عليه بريطانيا.
بالرغم من الضعف الاقتصادي والعسكري البريطاني، الأمر الذي يقيّد أنشطة بريطانيا الجيوسياسية، إلا أن لندن تستطيع خلق صعوبات جمّة لواشنطن. على سبيل المثال، من خلال منع الشحن إلى الموانئ الروسية في بحر البلطيق، وعرقلة عمل شركات التأمين، وهذا ما شهدناه بالفعل عندما تم طرح موضوع (الهدنة في البحر الأسود) بعد مباحثات الرياض بين الوفود الثلاثة، الروسي والأمريكي والأوكراني.
2-صعود اليمين في الغرب
هناك مواجهة داخلية متنامية في الغرب بين الدوائر اليمينية المحافظة، التي يتزعمها ترامب، والنخب الليبرالية، التي تتركز في الحزب الديمقراطي الأميركي. فنجاح ترامب سيؤدي تعزيز مكانته في الولايات المتحدة، فضلاً عن زيادة نفوذ حلفائه اليمينيين في أوروبا. وهذه النخب الليبرالية لا تريد الدخول في أي نوع من الشراكة مع بوتن.
الأوروبيون، في ضوء اعتمادهم العسكري على الولايات المتحدة، يتحاشون الدخول علناً في صراع مع ترامب، لكن العداء يتزايد بشكل محسوس. على سبيل المثال، وافق الاتحاد الأوروبي على فرض رسوم جمركية انتقامية على السلع الأميركية، والتي لم تتوقف إلا بعد أن أعلن ترامب توقفاً مؤقتاً لمدة 90 يوماً عن فرض الرسوم الجمركية. كما أن الأوروبيين لم يرفضوا مقترحات الصين لبدء المفاوضات بشأن تنسيق السياسة التجارية.
تحاول أوروبا أيضاً اتباع خطها الخاص في العلاقة مع أوكرانيا، ولكن بحذر شديد لأن بسبب الاعتماد العسكري على واشنطن.
3-روسيا
يدرك بوتن أهمية روسيا بالنسبة لترامب، لذلك فقد يضع شروطاً كثيرة لموافقته، وقد تكون الولايات المتحدة غير قادرة أو راغبة بالوفاء بها.
علاوة على ذلك، بوتن-من خلال تصريحاته وأفعاله- يرى روسيا كقطب مستقل، وليس شريكاً للصين أو الولايات المتحدة، لذلك من الصعب اجتذابه إلى تحالف مع الدول الغربية، وخاصة أن الخبرة الروسية معها كانت سلبية في العقود الماضية من جهة، كما أن روسيا قد تفضل تحقيق نوعاً من التوازن بين التناقضات واستخلاص فوائدها الخاصة بها من جهة أخرى.
علاوة على ذلك، لا يمكن ضمان الموقف الأمريكي في المستقبل، فقد يأتي رئيس جديد ويلغي كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها.
إضافة إلى ما سبق، لا يوجد أي مُرجّح حول إمكانية انتصار الولايات المتحدة في حربها التجارية مع الصين، والعديد من دول العالم تستشعر ذلك، وهذا ما يفسر موقفها المبني على الانتظار والترقب.
بكل الأحوال، لا يمكن استبعاد موافقة بوتن على وقف الحرب في أوكرانيا إذا اتفق مع ترامب على بعض الشروط المُرضية، وإذا توصل إلى استنتاج مفاده أن استمرار الحرب يحمل مخاطر أكثر من الفرص لروسيا.
4-أوكرانيا
يحاول زيلينسكي اللعب على فئة المعارضين السياسيين للرئيس الأمريكي في الغرب، من أنصار الحزب الديمقراطي الأمريكي. ولكن بالرغم أن الزعماء الأوروبيين وأنصار الحزب الديمقراطي الأمريكي دعموا زيلينسكي بقوة لفظياً، إلا أنهم لم يتمكنوا من تعويض وقف إمدادات الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية الأمريكية. لذلك، لاحظنا أن زيلينسكي اضطر للقبول بوقف إطلاق النار على طول خط المواجهة، على الرغم من معارضته الشديد لهذه الخطوة سابقاً.
هناك مؤشرات أخرى أيضاً تدل على تزايد الخلافات بين كييف وواشنطن، وخاصة فيما يتعلق بصفقة المعادن النادرة. كما أن ترامب بدأ ينتقد زيلينسكي علناً من جديد. وحتى هذه اللحظة من غير الواضح ما هي الشروط التي سيطرحها ترامب على كييف في المستقبل، وهل سيقبل زيلينسكي بها أو لا!
لذلك قد يضع زيلينسكي رهاناته على أعداء ترامب داخل الغرب، ليصبح أحد العناصر المركزية في التحالف "المناهض لترامب". وكما أدت التناقضات المحيطة بأوكرانيا في السابق إلى تدمير العلاقات الروسية-الأوروبية، فإن الواقع الجديد قد يؤدي إلى انقسامات أوروبية-أوروبية و كذلك أمريكية-أوروبية، ستكون عواقبها كارثية على أوكرانيا نفسها. فبالإضافة إلى روسيا، سيكون في مواجهة كييف "خصم جديد" هي الولايات المتحدة.
لذلك، السؤال المفتوح في هذا السياق:
هل ستكون أوكرانيا قادرة على اكتساب حلفاء موثوقين في المستقبل؟
أوروبا غير قادرة على دعم أوكرانيا عسكرياً بدون الولايات المتحدة، كما أنه لا يوجد اتفاق على موقف موحد داخل الاتحاد الأوروبي بشأن ترامب وسياسته تجاه أوكرانيا. كما أنه لا يمكن توقع دعم صيني؛ فبالنسبة لبكين العلاقات مع موسكو، في سياق المواجهة مع واشنطن، أكثر أهمية بكثير من العلاقات مع كييف.
ولكن يبدو أن زيلينسكي يراهن على تعثر المباحثات بين موسكو وواشنطن، الأمر الذي سيُغضب الأخيرة ويدفعها لزيادة الضغوط على روسيا ومواصلة مساعدة أوكرانيا.
استناداً إلى ما تقدم، نرى أن الواقع الجيوسياسي الجديد، مع الزيادة الحادة في التناقضات بين القوى الكبرى وداخل الغرب، يخلق مخاطر كبيرة بالنسبة لأوكرانيا، و بالتالي من الصعب التكهن بمآلات الأمور في المستقبل.


*مدير مركز JSM للأبحاث و الدراسات (موسكو).

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 429
`


آصف ملحم