وأهمّ ما تتميّز به الدولة الفيدرالية توزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية للدول الأعضاء تكون مسائل الدفاع والخارجية عادة من صلاحية الحكومة المركزية حصراً فيما تستقل الدول الأعضاء في إدارة شؤونها المحلية ويكون لها دساتيرها وتشريعاتها وإدارتها الخاصة فيما تفقد شخصيتها الدولية وتتمثّل عبر الاتحاد. لعلّ تكريس التعدّدية والتنوّع الثقافي والديمقراطية وتعزيز التنمية المحلية من المميزات المهمة فيما يشكّل ضعف الاندماج الوطني وإمكانية تشكّل نزعات انفصالية أبرز مساوئها.
تعود فكرة طرح الفيدرالية في لبنان الى العام 1975 عقب اندلاع الحرب الأهلية حيث ساد الأمن الذاتي في المناطق كشكل من الحكم الذاتي الواقعي ضمن الدولة الواحدة وأوّل من وضع مشروعاُ لهذا الطرح كان موسى برنس من حزب الوطنيين الأحرار حيث طرح أن يتكوّن الاتحاد الفيدرالي من أربع مقاطعات هي جبل لبنان إضافة إلى زحلة وجزين، بيروت الكبرى، لبنان الشمالي، لبنان الجنوبي مع البقاع الغربي إلّا أنّ ما لبث هذا المشروع أن تراجع لأسباب مختلفة .ومنذ ذلك الحين، ومع كلّ أزمة حادّة يمرّ بها البلد، تعلو أصوات تطرح الفيدرالية كحلٍّ وخلاص إلّا أنّ ما ميّز عودة هذا الطرح راهناً هو تزامنه مع احتدام الأزمة على كلّ المستويات وانهيار شامل تشهده الساحة اللبنانية بعد تعنّت السلطة وعدم إقدامها على أيٍّ من الحلول بعد انتفاضة ١٧ تشرين. سابقاً، كانت الدعوة للفيدرالية تنطلق من فكرة حياد لبنان إزاء الصراع العربي - الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وتحييد علاقة لبنان مع القوى الإقليمية والدولية المؤثّرة. اليوم، يعود هذا الطرح ولكن بلبوس جديد.
ينطلق مؤيدو الفيدرالية من أنها تشكّل الحلّ الأمثل للمشاكل الاقتصادية إضافةً إلى دورها في تعزيز التنمية المحلية ونجاحها في الدول التي تطبّقها ومن شأن هكذا نظام أن يعزّز الديمقراطية ويضع كلّ طرف أمام مسؤولياته تجاه بيئته الحاضنة بدلاً من رميها على الطرف الآخر وتعزيز التنافس بين الزعماء والمناطق في التنمية المحلية بأشكالها المختلفة. وتؤدّي الفيدرالية إلى تجاوز الطائفية في التمثيل الشعبي والإدارة والقضاء، كما هو الحال راهناً.
على المقلب الآخر، يعتبر معارضو الفيدرالية من أن صغر مساحة لبنان وصعوبة تقسيمه جغرافياً إلى دول أصغر تشكّل عائقاً إضافةً إلى تنمية العصبيات الطائفية والمناطقية ما ينذر بالتقسيم في مرحلة لاحقة. إضافة إلى هذا، ثمة عائق إذ أن تطبيق الفيدرالية يستدعي تغيير الدستور لأنه ينصّ على أنّ لبنان بلد موحّد لجميع أبنائه محدّداً بذلك شكل الدولة بأنها دولة بسيطة أيّ مركزية تمييزاً عن الدولة المركّبة أي الدولة اللامركزية عدا عن الالتصاق الديمغرافي الطائفي والجغرافي خاصة وأن الطروحات تعتمد الحدود الطائفية. غالباً ما بدّد مساوئ الفيدرالية في الدول التي تعتمدها وجود سلطة اتحاد قوية مجسّدة بذلك رغبة ومصالح الدول الأعضاء إذ أن ضعف السلطة المركزية يؤدّي إلى اتّساع دور الحكومات المحلية وربما يؤدّي ذلك إلى الانفصال كما دلّت تجارب كثيرة. حتى أن بعض مؤيّدي الفيدرالية يقرّرون بصعوبة تطبيقها في لبنان إذ يتساءلون عن مصير الأقلية التي تقطن في مناطق الأكثرية؟ كما يشترطون سلطة اتحاد قوية تضمن الانصهار الوطني. عدا عن صغر مساحة لبنان قياساً بالدول التي تعتمد الفيدرالية، ثمة أسئلة كثيرة تراودنا في حال تطبيق الفيدرالية: هل تشكّل كلّ طائفة اثنية بحدِّ ذاتها وهي التي تشكّلها بشكل عام وحدة اللغة والعرق والجغرافيا والسمات الاجتماعية والثقافية والتي باتت خصائص مشتركة لعموم اللبنانيين؟ وهل يختصر المجتمع بالطوائف في ظلّ وجود شرائح كثيرة لها انتماءاتها الثقافية والفكرية لا تختصر بالانتماء الديني؟ وما الذي يمنع استدعاء كلّ طائفة أو كانتون تدخلاً خارجياً لحمايتها؟ لقد نصّ اتفاق الطائف (١٩٩٠) على عدد من الإصلاحات أبرزها اللامركزية الإدارية التي لم تطبق إلى حدّ الآن بحجة أنها تؤدّي إلى التقسيم والتي تصبح حلّاُ وسطاً تؤمّن بعض مميزات الفيدرالية على المستوى الإداري والتنموي إذ أن من شأن اللامركزية الإدارية أن تعزّز الإنماء الشامل والعادل والمتوازن بين الأقضية والمناطق شرط أن تتولّاه سلطة مركزية قوية.
ختاماً، ليست الفيدرالية في حدّ ذاتها أزمة إنما في خصوصيات وطروف وطبيعة وإرادة الدول التي تعتمدها حيث الثقافة المدنية عاملاً لنجاحها وليست ثقافة الطائفة والعشيرة والتي قد تؤدّي إلى تقسيم المقسّم وهذا أساساً سمة النظام الحالي بالرغم من مركزيته الشكلية بحيث يعطي الطوائف امتيازات كبيرة ليحضر هنا تعبير مهدي عامل التناقض المأزقي للنظام. وفي حال اعتمدنا الفيدرالية، من يلغي حدود الفقر المرسّمَة خارج الحدود الطائفية والجغرافية ..؟