بعد إتمام المَهمّة... غورباتشوف وحيداً وفي عزلة تامّة وحنين إلى الماضي واعتراف

في منزل صغير في ضواحي موسكو يقضي، ميخائيل غورباتشوف، آخر سنوات حياته المليئة بالأحداث التي لطالما أحدثت تغييرات جذرية بدءاً بمساهمته بانهيار جدار برلين مروراً بتطبيق ما يُسمّى بإصلاحات "البريسترويكا" التدميرية وصولاً إلى تسليمه السلطة إلى "رجل الغرب" بوريس يلتسن الذي قضى نهائياً على الاتحاد السوفياتي.


استطاع ميخائيل غورباتشوف من تقريب رؤساء الدول الغربية الذين عبّروا عن إعجابهم غير المسبوق برئيس سوفياتي فريد من نوعه وتجلّى ذلك من خلال كلمات الرؤساء عنه أبرزهم تعليق الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان الذي قال في وصفه لغورباتشوف "عندما كنت ذاهباً للقاء غورباتشوف كنت اتخيل رئيساً بلباس البولشفيك الثوري الأحمر، لكن ما رأيته كان مفاجئاً رأيت شخصاً بلباس فرنسي حضاري وبيده ساعة أميركية. وأيقنت خلال لحظات أن هذا الرجل سيبيعنا كلَّ شيء".
أمّا وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، فقال عن غورباتشوف " شقّ طريقه إلى الرئاسة من خلال أشرس صراع سياسي في النظام الشيوعي، كان مصمّماً على بثِّ قوّةٍ جديدةٍ في الأيديولوجية السوفيتية المتقدّمة كما كان يعتقد وحدث ما حدث". أما مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأميركي، زبغنيو بريجينسكي، قال عن غورباتشوف التالي: " أظهر غورباتشوف فهمه لعمق الأزمة في البلاد وكان لديه شجاعة كبيرة بالإفصاح عن ذلك، ولكن في نفس الوقت ربما شكلت اعترافاته الخطوة الأولى لإنهيار الاتحاد السوفياتي".
وكان لافتاً تعليق المستشار الأول لجمهورية ألمانيا الاتحادية، هيلموت كول، عن غورباتشوف قال فيه " الذكرى التي ستبقى عن غورباتشوف هو أنه قضى على الشيوعية، قضى عليها بلا عنف وبدون دماء وغير ذلك لن يكون هناك أي ذكرى أخرى".
ما بعد إتمام "المَهمة" القاتلة...
تحوّل غورباتشوف إلى "أيقونة" مقدّسة في الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية حيث منحوه الهدية الأسمى بنظرهم، جائزة النوبل العالمية للسلام في عام 1990 بسبب إنجازه الأهم وهو إسقاط الاتحاد السوفياتي بدون طلقة واحدة. تغيّرت حياة الرجل رأساً على عقب بعد إنجازه، بات نجماً إعلامياً في العديد من الدول الغربية حيث شارك بتصوير إعلانات لشركة "بيتزا هات" وشركات أزياء أميركية مختلفة وشارك بجلسات خاصة مدفوعة مع رجال أعمال استطاع من خلالها تحقيق ثروة مالية كبيرة.
وبحسب مصادر إعلامية أميركية، يتقاضى غورباتشوف مليون دولار أميركي سنوياً من مؤسسة "جائزة نوبل للسلام" وذلك تقديراً لحصوله على الجائزة العالمية بسبب إسهاماته بإسقاط الدولة الشيوعية، بالإضافة إلى مبالغ مالية حصل عليها مقابل ندوات وهدايا من مختلف الدول الأوروبية.
كما ساهم غورباتشوف بإنشاء مؤسسة خاصة بإسمه عام 1992 عرفت بـ"مؤسسة غورباتشوف" والتي عملت كمؤسسة دراسات وأبحاث سياسية واجتماعية حاولت من خلالها تبييض صورته عبر دعم مباشر من المؤسسات غير الحكومية الأميركية وعمل على عقد لقاءات ومؤتمرات بشأن أهمية النظام الليبرالي ودور الدول الغربية في نشر الديمقراطية وحرية الكلمة ومحاسن الحياة الاجتماعية الغربية و مساوئ النظام السوفياتي بكلِّ مجالاته.
وتحوّل غورباتشوف في فترة التسعينيات إلى سفير للنوايا الحسنة زار خلالها مختلف دول العالم بدعم مالي من مؤسسات الاتحاد الأوروبي نظّم فيها المؤتمرات التي سرد فيها أهم إنجازاته السياسية والاجتماعية في دولة أسقطها بنفسه، بالإضافة إلى نشره أسرار وتفاصيل هامّة كانت تحصل في أروقة الدولة السوفياتية بدءاً من السياسة وصولاً إلى العسكر والاستخبارات.
وعلى رغم تسبّبه بانهيار الاتحاد السوفياتي، يُعَد غورباتشوف أحد رجال الدولة المهمين لدى الكثير من المواطنين الروس خصوصاً المعادين تاريخياً للنظام السوفياتي في تلك الحقبة، وشكر يلتسين بعد تسلمه زمام السلطة غورباتشوف وفتح له قاعة خاصة قرب الكرملين عارضاً فيها صور أرشيفية توثّق مسيرة آخر رئيس سوفياتي.
بين الأمس واليوم... عزلة ووحدة
أكمل ميخائيل غورباتشوف عامه 89 وبهذه المناسبة أصدر المخرج الروسي فيتالي مانسكي فيلماً بعنوان "غورباتشوف - الجنة" تناول فيه تفاصيل حياة غورباتشوف الحالية وعن مسيرته السياسية وما آلت إليه الأمور بعدما دخل العقد التسعين من عمره.
يكشف الفيلم المصوَّر الجوانب التفصيلية في حياة غورباتشوف وليس العموميات التي تنشرها وسائل الإعلام غالباً، فيبدأ المخرج فيلمه بيوم عادي مع غورباتشوف من لحظات استفاقته مروراً بالفطور وصولاً إلى إنهاء يومه الطويل ويتحدّث غورباتشوف عن كلِّ شاردة وواردة خلال يومه.
في بيت متواضع قدّمته الدولة الروسية في ضواحي موسكو يقطع غورباتشوف ما تبقّى من عمره بسكون وهدوء دون حاجة للمستشارين الذين لم يبق منهم أحد على قيد الحياة. كما أن الحراسة والأمن مختصران بأربعة أشخاص وظّفتهم الدولة لحمايته.
ترافق غورباتشوف طبيبة مساعدة خاصة يتكفّل شخصياً بدفع أتعابها، حيث تساعده وتعتني به وتعينه في شيخوخته بحيث يصعب عليه الوقوف من مقعده ويتحرّك بواسطة آلية خاصة، وفي بعض الأحيان تجلس وتحاوره وتخبره عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد. فمن الناحية السياسية تقلّبت مواقف غورباتشوف وآرائه من سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتجلّى ذلك بتصريحات مؤيّدة له خلال بداية الألفية الثانية، لكن سرعان ما تبدّلت الأمور في عام 2011 تحديداً مُتَّهِماً ًإيّاه بالابتعاد عن طريق الديمقراطية وحكم القانون.
وقال غورباتشوف في العديد من المرات... إنه "في عهد بوتين جرى تهميش الناس حتى أصبحوا مثل بيادق الشطرنج وإن الحزب الحاكم "روسيا الموحَّدة" ليس سوى نسخة سيئة عن الحزب الشيوعي السوفياتي... منتقداً إعادة البلاد إلى زمن حزب الدولة الواحد".
خفًّ نشاط غورباتشوف في الفترة الأخيرة وانعكس هذا الأمر أيضاً على مؤسسته البحثية المعروفة بـ "مؤسسة غورباتشوف" التي فقدت الكثير من تمويلها الغربي والأميركي خصوصاً بعد إقرار البرلمان الروسي قانون " الوكلاء الأجانب" المتعلّق بإيقاف التمويل الأجنبي للمؤسسات الروسية ما سبّب بإغلاق أبواب المركز نهائياُ.
أما على المستوى العائلي، يعيش غورباتشوف وحيداً بعد وفاة زوجته واقتصرت الزيارات العائلية بقليل من الأقارب، لكن الصحف الروسية كشفت أن أحفاد غورباتشوف الوحيدون توقّفوا عن زيارته في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب علاقتهم السيئة. كما يواظب غورباتشوف على التقيّد بعلاجه الضروري في ألمانيا وهي تكاليف يتحمّل أعباءَها وحده بعدما تخلّى عن المساعدة الطبية من الدولة.
الحنين إلى الماضي
وفي معرض حديثه عن الاتحاد السوفياتي في الفيلم الجديد أعرب غورباتشوف عن حنينه الشديد للماضي وللدولة التي ترعرع فيها والتي قدّمت له الكثير ولم تبخل عليه بشيء، مشيراً أن العالم اليوم قد تغير وباتت العلاقات بين الناس تقوم على الأساس المادي والمصلحة الفردية.
واعتبر غورباتشوف أن بقاء الاتحاد السوفياتي كان سينعكس إيجابياً على العالم بأسره، مضيفاً أن "العالم كان سيكون أكثر أمنا وعدالة". واعترف الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي بأنه ارتكب العديد من الأخطاء القاتلة التي ساهمت بحدِّ تعبيره إلى انهيار الدولة وأبرزها أخطاء تتعلق بالاصلاحات السياسية ونظام الحكم وإصلاح اقتصادية متعلّقة بالدولة والناس.
بهذه الكلمات ختم غورباتشوف فيمله الجديد مُعرباً في الوقت نفسه عن أسفه الشديد لما حصل، مشيراً بأنه لم يكن يتوقّع أن هذه الخطوة التاريخية قد تنعكس على السياسة العالمية والمجتمع والدولة التي ولد فيها وأعطته أكثر بكثير مما أعطاها... بل هو من خانها.