الموت الذي يحاصرنا

الأحرف اللاتينية رفضت نصي. فإن تشبيهي لبيروت بفرانكنشتاين (الوحش المصنوع من الجثث في رواية ماري شيللي، التى تحمل العنوان عينه) لم يستهوي الصلوات الفرنسية، التي استبدلته بذكريات بارسية منتشية بالالهة الصامتة تحت الأفق... حيث تجلس الآلهة منتظرة التضرعات الخرساء. والأفق خط خيالي ينحسر كلما اقتربوا منه...

ليتهم يحاولون الحفاظ عليه بالتزام الصمت.

كيف للصلوات أن تصدح في العوالم الأرضية عندما تفرغ من لذة الأفيون؟ أين الاله امام الخيبات والانكسار؟ أين أجده عندما يتزاحم أسياد الأرض على إقصائه عن عرشه؟ فالتجويع مستمر، والتقفير مستمر، والسجود للأسياد متسمر مكانه لم يتغير.

عكار المنسية فجرت أيضاً، وهذه المرة بأنامل الجشع والغطرسة. مات أناس، شوّه آخرون، وفي المستشفيات الباردة، منهم من ينازعون. البلاد بأكملها أضحت وحشاً من الجثث، ما من أمل في احيائه الا على ابواب الهروب المسننة بالأشواك.

شموع التقنين، كما الأفكار، كثيرة، وتائهة. بالاضافة الى القليل القليل من الأمل. فالمجد وحده للرفض والتمرد في المآسي. المجد للنظرات الباردة وغياب الآمال في التعابير السوداوية، والكره المعتم لتزييف الشعور وأغاني النحيب المقطرة بالقوافي الخضراء. 

المجد للكره، لا البكاء عن غبار الماضي العتيق، ولا العودة للتضرع للخالق. فالخالق لن يبكي سوى في الشتاء، عندما تموت الحرائق، وتضحي الغابات مسارحاً من الفراغ.

المجد للثورات اللامتناهية، والعودة لأسوار النفس الحرة، التي لا يمكن تقييدها سوي بالعطش الدائم للتحرر.

المجد للأصوات المبحوحة طمعا بشيء من العدل، وشبح من العيش الكريم.

ما من مجرم في الطبقة الحاكمة يقبل بالتخلي عن كرسي التعذيب. الاستخفاف بالحياة أصبح أشبه بالوقاحة، بالقرف، فما الذي يردع الغضب الشعبي  عن اختراق جماجمهم ؟ ما الذي يردعنا عن الاقرار بسلطان الشعب وصوته امام هذا الطغيان الغبي، المبتذل، الفارغ، المرتهن...الذي ما يزال يفكر باعادة اعطاء نفسه شرعية غير شرعية، الذي يماطل في ابقاء عزرائيل جليسا أزليا لكل لبناني، كي يستمر بتقسيم الحصص حسب ما تشتهيه الطوائف وآثامها.

"ما العمل ؟ أبوسعنا نحن الذين لا نزال  نعيش شبه أحياء في قلب الرأسمالية الشائخة الذي  ما زال ينبض، أن نفعل أكثر من أن نعكس الخراب من حولنا ؟هل نستطيع أن نفعل أكثر من أن نغني بحزن ومرارة أغاني الخيبة والهزيمة؟" 

أجل يا د.لاينغ، نستطيع، بل يجب علينا استئصال ذلك القلب الميت قبل أن يقتلنا، في صرخات كل واحدة أعلى وأكثر عنفاً من التي تسبقها. 

وأن نبصق، ثائرين، عدميين، كرهنا الأسود في أوجه الهزيمة والدمار.