موازنة الحكومة، تكون فلا نكون!

 
"توجد طريقتان أساسيتان تستطيع بهم الدولة تمويل نفقاتها: عن طريق الضرائب، وعن طريق الديون. وبشكل عام، تعتبر الضرائب الوسيلة الأفضل، سواءً من حيث العدالة أم من حيث الكفاءة. مشكلة الدين هي أنه يجب دائماً سداده، وهذا ما يكون دائماً في صالح أولئك الذين يملكون القدرة على إقراض الدولة، وهم نفس الذين كان يجب فرض الضرائب عليهم".
توماس بيكيتي – رأس المال في القرن الواحد والعشرين.
نبدأ بهذا الاقتباس من بيكيتي، كتكثيف لما كنا قد عرضناه سابقاً حول الدين العام، كيف تمّ خلقه، ومن يخلقه ويحافظ ويساهم في نموّه، وبالتالي من المستفيد من هذا الدين؟ الخلاصة كما أشرنا سابقاً، أن المستفيد هم الذين أقرضوا الدولة، وهؤلاء هم نفسهم من يحكم البلد (بدون أي حكمة) من ما بعد الحرب. ومن الخلاصات أيضاً، أن هؤلاء سيبذلون كامل طاقاتهم للحفاظ على المصدر الذي يغذي ثرواتهم، وهو الدين العام. لذا فهم لن يلجؤوا إلى أي من الحلول التي تؤدي إلى تخفيض هذا الدين، أو إلى حل جذري للمشكلة التي يعاني منها لبنان اليوم. فهذا النمط الاقتصادي المتخلف هو هواؤهم الذي يعيشون عليه، وبدونه لن يكون لهم وجود.
أمّا تغيير هذا النمط، فهو لن يكون إلّا بما يشبه الانقلاب الشامل، أي ثورة شعبية تفرض موازين قوة جديدة. لماذا؟ لأنّ هذا النظام ليس سيد نفسه، فحتى لو وصلت درجة تخلّفه إلى أقصاها، سيجد مشغّله الخارجي (الأميركي بشكل أساسي) طريقة تأجيل الانفجار، لأنّه ليس من مصلحة الأميركي أن يخسر نظاماً تابعاً مثل النظام اللبناني، فهو ينفّذ أجندات مشغّليه منذ عشرات السنوات دون أي تردد. لذا، هناك ترابط جدليّ بين تغيير النظام الاقتصادي المتخلّف من جهة، ومن جهة أخرى بين مواجهة المشروع السياسي الأميركي في لبنان ومنطقتنا بشكل عام.
اليوم، يجري نقاش الموازنة، ولا شيء يوحي إلى أنّ الحكومة ستنقلب على نفسها ونظامها، بمعنى أنّ الحكومة لن تلجأ إلى حلول من النوع التي تؤدي إلى تغييرات جذرية.
بشكل عام، هناك ثلاث وسائل يمكن اعتمادها لوضع حدّ لحالة الانهيار التي يمر بها الاقتصاد. وبالطبع عندما نتحدّث عن الانهيار، فهناك تعريفات مختلفة جدّاً بين تعريف الانهيار عند الحكومة وتعريفنا نحن لهذا الانهيار، اليوم هناك عجز كبير في الموازنة، وهذا العجز ناتج عن النزف في الموازنة الناتج عن الدين العام وخدمة هذا الدين. لذا فالحل يبدأ بوضع حدّ لهذا النزف تحديداً.
لذا فالوسيلة الاولى هي كما أشرنا بشكل موسّع سابقاً هي التضخم. ولكن هذا الخيار بالإضافة إلى مخاطره الناتجة عن عدم إمكانية ضبطه، هناك خط دفاع أقامته السلطة للمحافظة على مصدر ثروة رموزها، وهو أنّ نصف الدين العام تقريباً بالعملة الأجنبية، وبالتالي فإن التضخم لا يعطي نتيجةً فعالة كتلك التي أعطاها في فرنسا مثلا بعد الحرب العالمية الثانية.
أمّا الوسيلة الثانية، فهي ضريبة استثنائية على الثروة والدخول العالية (لمدة عشر سنوات مثلاً)، والتي يعتبرها بيكيتي الحل الأكفأ والأكثر عدلاً بالمقارنة مع باقي الحلول ومنها التقشف الذي سنتحدّث عنه لاحقاً. لذا، هكذا ضريبة في لبنان تعني أوّل ما تعنيه، ضريبة تتجاوز الـ 15% على الثروات الهائلة التي بمعظمها تم تحقيقها من خلال الاستثمار في الدين العام أو من خلال توجيه الاقتصاد اللبناني لخدمة أصحاب الثروات هؤلاء، فأصبح اللبنانيون من حيث يدرون أو لا يدرون يعملون لمصلحة قلّةٍ قليلة تملك كل شيء تقريباً. بالإضافة إلى هؤلاء، تشمل هذه الضريبة أرباح المصارف، التي تعتبر المستفيد الاكبر من النموذج الاقتصادي اللبناني، والتي حققت أرباحاً خيالية خلال الثلاثين سنة الماضية. وللمفارقة، فإن المصارف وأصحاب الثروات وأركان السلطة وأزلامهم هم نفسهم. فنفس الشخص يكون رئيسَ حكومةٍ أو وزيراً ويكون مالك أحد المصارف ويكون أيضاً من أصحاب الثروات الهائلة. فهذا لبنان يا سادة!
أمّا الوسيلة الثالثة، والتي يعتبرها بيكيتي أيضاً "أسوأ الحلول، من حيث العدالة ومن حيث الكفاءة"، فهي جرعات مطوّلة من التقشف. وطبعاً حكومتنا لن تختار إلّا هذا الحل. فهم يسعون جاهدين اليوم إلى تمرير ضرائبٍ على من لا يستحقّ أن تفرض عليه هذه الضرائب، أي على الأكثرية الساحقة من اللبنانيّين، كما يعملون على تقليص الانفاق الحكومي من خلال الاقتطاع من الأجور والرواتب، وكذلك من التعويضات التقاعدية. بالمقابل، ومن خلال الحلول التقشفية هذه، هم يحاولون جاهدين لعدم فرض ضرائب على من يجب أن تفرض عليه الضرائب، أي كل الذين استفادوا من النظام الاقتصادي اللبناني، والذين ذكرنا بعضهم أعلاه.
خلاصة القول، لا تنتظروا من الحكومة إلّا أن تكون أمينةً لمصالح الطبقة التي تمثّلها، وبالتالي فلن تتردّد في اختيار التقشف كوسيلة لتأجيل الانفجار. لذا علينا جميعاً، المتضررين من هذا النموذج الاقتصادي، أن نتّحد في وجههم ونكون أيضاً أمناء على مصالح الطبقة التي ننتمي إليها، وأن نعلن بدايةً معركة مع هذا النظام وممثّليه، يكون عنوانها "نكون أو لا نكون".
  • العدد رقم: 358
`


أدهم السيد