الغاز، الآيديولوجيا، ومصير تنتالوس

لم تكن الموارد هي ما ينقص المجتمع في لبنان، وليست هي ما ينقصه اليوم. إنه نظامٌ يُرغم الطبقات الشعبية، أكثرية المجتمع في لبنان، على الوقوف، كما تنتالوس، في بحيرة الماء العذبة وفوقه أشجار الفاكهة إنما يقاسي العطش والجوع.

جاء في الأوديسة، من الميثولوجيا الإغريقية، أن الملك تنتالوس، وهو ابن الإله زيوس، أراد أن يمتحن الآلهة وإذا ما كانوا كلّيّي القدرة فعلاً. اختار العشاء في جبل الأولمب مناسبةً لامتحانهم وليرى إذا ما كانوا سيعرفون ما الذي يأكلونه حتى ولو كان ما يأكلون محرّماً. ومن أجل ذلك قام تنتالوس بقتل ابنه بيلوبس وتقطيعه وطهيه وتقديمه للآلهة. عرف الآلهة بأمر الخدعة والامتحان. غضب زيوس فلعن مملكة وسلالة تنتالوس وراح يفتش عن العقاب المناسب له على فعلته تلك.
كان عقاب تنتالوس أن يقف في بحيرةٍ تغمره ماؤها العذبة حتى ذقنه. إلا أنه كلما حرّك رأسه ليشرب ويروي عطشه من مائها، كانت مياه البحيرة تنحسر وتجفّ. أيضاً، كانت فوق رأس تنتالوس أشجار فاكهة، أشجار تين ورمان وتفاح وإجاص وزيتون، لكنه كلما حاول أن يمدّ يده ليقطف ثمرة من هذه الأشجار ويأكل، كانت الرياح تهبّ وتُبعد الأغصان باتجاه الغيوم.
كان عقاب تنتالوس أن يعاني العطش والجوع أبد الدهر فيما هو واقف في بحيرة من الماء العذب وفوق رأسه أشجار الفاكهة.
ليس مفاجئاً إذن أن تكون كلمة tantalize في الإنجليزية مشتقةً من اسم تنتالوس، وهي تعني إغراء أو تعذيب شخص من خلال وعده أو بجعله يشاهد شيئاً لن يحصل عليه. وليس مبالغة أن تكون هذه الكلمة الإنجليزية هي الكلمة المناسبة لوصف ما يقوم به تحالف الطبقة المسيطرة في لبنان حين يُغدق بالوعود والأوهام على عموم الشعب اللبناني حول مئات المليارات من الدولارات التي سوف تنهمر علينا بعد استخراج الغاز.
لا يتوقف الأمر عند الوعد بالمليارات، بل إن معظم أركان الأحزاب الطائفية بدأت بالترويج لسردية مفادها: إن الغاز هو السبيل الوحيد أمامنا للخروج من الأزمة. وكان أمين عام جمعية المصارف، فادي خلف قد كتب مقالاً في حزيران الماضي جاء فيه: "إعادة تكوين الودائع ممكنة كون المداخيل النفطية آتية ولو بعد حين".
المضحك بلازمة إعادة تكوين الودائع أنها اعتراف واضح بٱلية عمل النظام سابقاً وخطته للمستقبل. ماذا يعني أن "تعيد تكوين ودائع" تبدّد معظمها ولم يعد موجودا؟ أنتَ تعترف أنك ستقوم باستخدم ثروة ما لطرف ٱخر وستستخدمها لتسديد الودائع التي تم تبديدها. أي أنك فعلياً ستقوم بالسطو على ثروة هذا الجديد سواء كان هذا الطرف أفراداً أو المجتمع بأسره.
بعيداً عن بازار المزايدات والمناقصات على حجم الثروة الغازية، وبالمناسبة، أحد الأدلّة البدائية التي تُستَخدم لإثبات كروية الأرض هي بالنظر إلى جميع الأجرام المحيطة بنا والتي نلاحظ كرويتها. فيقول العلماء عندها لماذا لا يكون كوكبنا كروياً أيضاً؟ المنطق نفسه يمكن استخدامه لحد ما في سياق الثروة الغازية التي لا تقارير رسمية ودقيقة حولها حتى الٱن. تقريبياً يمكن الدلالة على حجم إيراداتها بالنظر للإيرادات الغازية "الاسرائيلية" والقبرصية مثلاً، والقياس على ذلك.
بيدَ أنه، وبمعزل عن حجم الإيرادات المتوقعة، يمكن القول أن تحالف الطبقة المسيطرة، إضافة إلى عدوانه الاقتصادي المستمر على الطبقات الشعبية، وتفوّقه الجليّ والحاسم في ميدان الصراع السياسي، فهو يشنّ اليوم حملةً عدوانية جديدة في الحقل الٱيديولوجي تهدف لسحق أي تصوّر لانتظام المجتمع في لبنان مخالف للتصور والنموذج الذي تقدمه الطبقة المسيطرة.
أما تصوّر الطبقة المسيطرة للمجتمع وتثبيت هذا التصوّر فهو يتطلّب، بالضرورة، عدة أمور منها:
أولاً، تجنّب الإصلاحات. ورغم الكلام الكثير حول "الإصلاحات" منذ ما قبل انفجار الأزمة، إلا ان ما نعنيه بالكلمة هنا هو دور الدولة في المجتمع. قد يكون الإصلاح مثلاً تغيير دور الدولة من اداة لجباية الضرائب من عموم الناس ودفعها للدائنين على شكل خدمة دين عام إلى دور ٱخر هو ضمان الرعاية الصحية والتعليم اللائق ومتدخل أساسي في تأمين خدمات السكن والنقل.
لا تريد الطبقة المسيطرة تجنّب الإصلاحات لأنها "شريرة"، بل لأن أي تغيير في دور الدولة سيصيب المصالح الاقتصادية والاجتماعية للطبقات والشرائح التي تمثلها بضرر كبير. وهذه الفئات تتراوح بين أصحاب المصارف وصولاً لاصحاب المولدات والعصابات المتحكمة بوسائل النقل العام المتاحة.
"شرّ" الطبقة المسيطرة ينبع من تناقض موضوعي بين المصالح التي تمثلها من جهة وبين مصالح الطبقات الشعبية وتطوير القوى المنتجة وتطوير النظام السياسي من جهة أخرى.
ثانياً، عدم إعلان إفلاس القطاع المصرفي المفلس فعلاً. ليس أصحاب المصارف وحدهم "أم الصبي" حين تتعلق الأمور بمصارفهم. فالمصارف ليست رساميل المصارف حصراً، بل هي أيضا وبشكل أساسي، ودائع كبار المودعين، أداة التمويل بالوسائل الاعتيادية والملتوية، وميدان اجتذاب الأموال وغسلها وتبييضها. لذلك فإن القطاع المصرفي في لبنان هو مدماك أساسي للنظام بأسره.
ثالثاً، تريد الأحزاب الطائفية في سياق إرساء دعائم تصورها للمجتمع، تثبيت تماسك النظام السياسي وقواعدها الشعبية.
لذلك، فالحديث عن الغاز لا يتعلق بحجم الإيرادات والأرقام. فهذه يسهل دحضها. دخل إلى لبنان في العقود الثلاثة المنصرمة قرابة ٣٠٠ مليار دولار. يتدفق إليه سنوياً ٧ مليارات دولار من تحويلات المغتربين. عشية انفجار الأزمة عام 2019 كانت موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبة تُقدر بـ 34 مليار دولار، اليوم تُقدر بـ 9 مليارات دولار!
والمثل الأهم هنا، هو ما يُقدّر بـ ٢٠ مليار دولار تدفقت إلى لبنان في السنتين التاليتين للأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨. لم تشكل هذه المليارات دفعاً لتطوير الاقتصاد بل عبئاً عليه بسبب النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً. إذ لم يتم استثمار هذه المليارات في الاقتصاد الحقيقي بل تحولت إلى ودائع يتحمل المجتمع بأسره كلفة خدمتها بالفوائد.
هذه الأرقام هي أضعاف مضعّفة عما يُتوقّع أن يتأتى من إيرادات الغاز. وكلنا يعلم، أنه رغم هذه الأموال، نحن بلد بلا كهرباء ويتفشى فيه وباء الكوليرا!
لذلك، فالحديث عن الغاز لا يتعلق بالأرقام. إنها مسألةٌ ٱيديولوجية بالدرجة الأولى. إنها الحملة الآيديولوجية التي تحقق الأهداف الثلاثة المذكورة آنفا: تجنب الإصلاح، إنقاذ المصارف، وتماسك الأحزاب الطائفية. إنها الآيديولوجيا التي تؤمن استمرارية نظام الأحزاب الطائفية والأرستقراطية المالية. بيد أنها في الوقت عينه لا تعيد إنتاج الأزمة المستمرة وحسب، بل هي ستحقق استمرار الأزمة البنيوية في المجتمع، كانهيار أنظمة التعليم والصحة. هذا من شأنه أن يسحق اليد العاملة الماهرة التي لطالما كان ينتجها النظام في لبنان بهدف تصديرها، ومن شأنه أيضاً أن يحذف من أعمار اللبنانيين بتقصير أمد الأعمار والمعاناة من أمراض وأوبئة وضعها العالم خلف ظهره، وغير ذلك.
انهار النموذج الاقتصادي الذي كان قائماً في لبنان. ولكن، عوض تجاوزه يهرب تحالف الطبقة المسيطرة إلى الأمام. إن كان النموذج البائد يتسم بأنه شبه-ريعي لا يعير أهمية للأنشطة الإنتاجية، فها هي اليوم تراهن على الريع الخالص المتأتي من إيرادات الغاز لإنقاذها. وإن كان الذي انفجر مع الأزمة هو هرم بونزي المعتمَد في القطاع المصرفي، فهي تَعِد اليوم ببناء هرم بونزي أوسع وعابر للأجيال باستغلال مقدرات البلد لإطفاء خسائر محققة وترميم النموذج البائد. وإن كانت مأساة أكثرية المقيمين مردّها انسحاب الدولة من أي دور اجتماعي يخدم الطبقات الشعبية، فالطبقة المسيطرة اليوم تؤكد على أن دور الدولة سينحصر بفرض إجراءات التقشّف والإفقار على الطبقات الشعبية والسطو على مقدرات المجتمع اللبناني وتحويلها لجيوب الأوليغارشيين.
لم تكن الموارد هي ما ينقص المجتمع في لبنان، وليست هي ما ينقصه اليوم. إنه نظامٌ يُرغم الطبقات الشعبية، أكثرية المجتمع في لبنان، على الوقوف، كما تنتالوس، في بحيرة الماء العذبة وفوقه أشجار الفاكهة إنما يقاسي العطش والجوع.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 409
`


محمد بزيع